We Own This City: لم يتغيّر أي شيء في بالتيمور

15 نوفمبر 2022
يستعيد المسلسل بعض أبطال "ذا واير" (HBO)
+ الخط -

يعيدنا مسلسل HBO القصير، We Own This City، إلى شوارع بالتيمور التي عهدناها مع مسلسلات مثل The Wire، خاصة أن الحلقات الست الجديدة طورها ديفيد سايمون وجورج بيليكانوس، وظهرت خلالها العديد من الوجوه المألوفة لمن لعبوا أدوارًا رئيسية أو ثانوية في The Wire، ومنهم جيمي هيكتور وديلاني ويليامز وتراي شاني.

وفي حين ركز The Wire، ذو المواسم الخمسة، على رواية قصة متخيلة لعصابات المخدرات في بالتيمور، وتتبع مسيرة نشأتها الطويلة والمتقلبة، يلتفت مسلسل We Own This City إلى قسم الشرطة في المدينة ذاتها، ليحكي قصة حقيقية عن فساد المؤسسات هذه المرة.
يستند العمل إلى كتاب ألفه الصحافي جاستن فينتون، ويعتمد أسلوبًا سرديًا غير خطي، يبدأ عام 2017، أي بعد مرور عامين على وفاة فريدي غراي، وهو رجل أسود مات في الحجز المؤقت، ويتتبع تقاطع تحقيقات عدد من الدوائر الرسمية في الحادثة، ومنها مكتب التحقيقات الفيدرالي ووزارة العدل وعمدة المدينة والسياسيون والمحامون، وغيرهم من قادة الشرطة، متنقلًا بين الأمكنة والأزمنة الحقيقية، بواسطة سجل شرطة رسمي، يُملأ أمام أعين المشاهدين على الشاشة.

تبدأ الحلقة الأولى بخطاب تحفيزي لواين جينكنز (جون بيرنثال)، وهو ضابط الشرطة الذي تروي الحلقات الست قصة صعوده من ضابط متدرب إلى قائد فرقة تتبع السلاح، محذرًا عناصره الجدد من اعتناق العنف وسيلةً للتصدي للمجرمين. يُجابَه خطاب جينكنز بتصفيق حار، ويعتقد المشاهد أنه أمام أسطورة تلفزيونية أخرى عن "الشرطي الخيّر"، لنكتشف فقط مع نهاية الحلقة الأخيرة أن الإعجاب الذي يلقاه واين من زملائه، لم يكن نابعًا عن الاعتراف به شرطياً كفؤاً، وإنما لكونه العقل المدبر لعمليات السرقة الممنهجة خلال مداهمات رسمية لمواقع المخدرات والأسلحة والنقود في بالتيمور، محولًا قسمه إلى عصابة تعمل تحت جناح الدولة، وتمارس الانتهاكات وشتى أنواع العنصرية بحماية دستورها. يُشكّك سايمون في مفهوم العدالة ككل، ليس في قيادات الشرطة فحسب، محولًا زعماء عصابات المخدرات السابق ظهورهم في مسلسل The Wire إلى محققين وضباط يرتدون الشارات، مؤكدًا الحدود الواهية بين الخارج عن القانون ومطبقه في كثير من الحالات.


ومع أن فرقة عمل تتبع السلاح تتصدر مشهد الفساد عبر المسلسل، إلا أن تقاطع القصص الممتدة منذ عام 2003 حتى عام 2017، وتراكمها على مدى الحلقات الست، وهي خاصية تميز أعمال سايمون عن غيرها، تُظهر كيف يتفشى الفساد في عروق المدينة، التي تتعامل في ذات الوقت مع نوبات احتجاج تقودها حركة Black Lives Matter، وما خلفته وفاة المدني غراي في قسم الشرطة من أثر مدمر على المشهد العام، بدءًا من فقدان الثقة بين سكان بالتيمور والشرطة، وصولًا إلى خوف تلك الأخيرة من ممارسة العمل الميداني بعد وقوع الحادثة.

يقدم المسلسل مراجعة تاريخية معاصرة لمسيرة قسم الشرطة في بالتيمور، ويرث عبر بحثه المختزل أسئلة سابقه من The Wire، منتهجًا أسلوبه في دراسة العلاقة المتشابكة بين السياسة والواقع الاجتماعي والاقتصادي، مضيفًا إلى ما أُنجز من قبل أسئلة جديدة: من يمتلك المدينة؟ وهل يتنازع المجرمون والشرطة على الحكم؟ أم أنهم اتفقوا منذ وقت طويل على تقاسم الحصص وتوازع المسؤوليات والواجبات؟ يطرح المسلسل تساؤلًا حول عمل "الشرطة الجيدة"، وعما إذا كان ذلك المفهوم اليوتوبي القديم قابلًا للتطبيق في أزمنة تشبه تلك يقتل فيها رجل أمام أعين الجميع بسبب لون بشرته فقط، ونحن هنا لا نتحدث عن فريدي غراي فقط.

مع نهاية الحلقة الأخيرة، يدرك المشاهد أن شخصية جينكنز الكاريزماتية، التي تبذل على طول المسلسل مجهودًا كبيرًا، وربما صادقًا، لمنح السرقة مبررات أخلاقية، لا تشكل إلا جزئية واحدة من الصورة الكبيرة لمدينة تتغذى بأكملها على الفساد، وتعتاش على خرق الإجراءات وتزوير ساعات العمل الإضافية والتهرب الضريبي، بدءًا من عناصر شرطتها، وبعضهم لا زال حتى الآن في السجن، وصولًا إلى مفوضيها وعمدائها المجددين، الذين تخبرنا شارة النهاية أن بعضهم ضبط لاحقًا بجرائم التهرب الضريبي، ونجح في تفادي السجن أو دخله بشكل مؤقت فقط.

سينما ودراما
التحديثات الحية

على الوجه الآخر، تقدم لنا المحامية في الحقوق المدنية نيكول ستيل (وونمي موساكو) روايتها الخاصة عن مجريات الأحداث وصراعها لإدخال تغييرات جذرية على بعض الأقسام، قبل وصول إدارة دونالد ترامب إلى السلطة عبر الانتخابات الرئاسية لعام 2016، وهو ما تقتنع في نهاية رحلتها بأنه غير ممكن نظرًا للظروف الحالية، وأنه حتى مع اعتقال جينكنز وإرساله إلى السجن، لن يمضي وقت طويل قبل أن ينتج النظام المتهالك واين جينكنز آخر، وربما من هو أسوأ منه، ممهدة للأحكام التي وصل إليها النظام القضائي بعدها بالتغاضي عن مقتل غراي، وتبرئة عناصر الشرطة الستة المتورطين في قضيته. أما "الحرب على المخدرات"، التي بدأت مع مسلسل The Wire، فقد انتهت بخسارة فادحة، كما يوضح الضابط المتقاعد بريان غرابلر (تريت ويليامز) للمحامية المتحمسة للتغيير.

لا يخشى المسلسل من دحض الآمال الواهمة والاعتراف بالعجز حين يقتضي الأمر ذلك، لذا قد يبدو في كليته أكثر تشاؤمًا عند مقارنته بالنتائج التي حققها "العدل" في The Wire، خاصة أنه يصور شرطة بالتيمور في العقد الأول من القرن الواحد والعشرين، وما ورثته من مشاكل قديمة وأخرى حديثة مع اقتراب ترامب من الحكم، ناهيك عن الأزمات المالية التي تعترض طريقها وتعمل باستمرار لتخطيها، عبر القانون أو بالالتفاف عليه. من هذه الزاوية، يقترح المسلسل أن أنماط الفساد، المعروضة عبره، تنبع عن دوافع اقتصادية متجذرة، تجعل السرقة جزءًا لا يتجزأ عن عمل الشرطة، تمامًا كما الاتجار بالمخدرات بالنسبة لأبناء الحي الفقير.

يجسد جينكنز كل ما هو خاطئ في نظام العدل المعاصر، ويؤكد بصعوده المتسارع الممارسات السلطوية الممنهجة لمكافأة الفاسدين بشارات كتف وترقيات عالية. ومع أنه يبدو مجرد ضحية أخرى للنظام، إلا أنه حامل ساذج آخر لـ"عبء الرجل الأبيض"، الذي يجد نفسه مضطرًا لانتزاع حقوقه وسط أمة تتلاشى غير مبالية به، متأكدًا أنه سيفلت من العقاب بسبب الفساد السياسي المستشري، إذ يقنع جينكنز زملاءه ومتدربيه بأن أداءهم عملهم على أكمل وجه وتقديمهم معدلات اعتقال تتناسب مع ما تريده السلطة، سيبعدان عنهم الشبهات، مستغلًا غياب النظام المؤسساتي الذي يبقيهم مكتفين على المدى الطويل، لابتكار نظام داخلي خاص يسير وفق قواعد "كتابهم الخاص". لكن سير الأحداث يظهر أن جينكنز كان يسعى إلى ما هو أبعد من الخلاص الفردي، خلافًا للمحقق شون سوتر، الذي يبدي صناع المسلسل تعاطفًا أكبر إزاء قصته الشخصية، التي تتلخص في وقوع "جندي طيب" في شرك الفساد.

سينما ودراما
التحديثات الحية

يخيّب المسلسل آمال من توقعوا وجود شخصيات كاريزماتية وإشكالية، مثل عمر ليتل وبابلز وجو بروبيزيشين، ربما عمدًا، فيصيغ قصته بشخوص عادية وباهتة، تشبه إلى حد كبير مكاتبها الرتيبة.
يقدم We Own This City بحثًا سوسيولوجيًا آخر يضاف إلى ما قدمه The Wire عن مدينة بالتيمور، إلا أنه يلتقط لحظات أكثر إشكالية من التاريخ المعاصر، ففي حين يلتفت The Wire إلى فتيان الزوايا ومصائرهم، يبنى We Own This City على حقائق بات العالم بأسره يعرفها جيدًا، وإن لم يكن يراها بعينيه، وإنما عبر شاشات الهواتف الذكية التي تترصد في كل زاوية.

المساهمون