عددٌ قليلٌ من الأشخاص في مكان واحد. الزمن يكاد يكون يوماً، أو أقلّ. جريمة قتل، وخداع مقصود لفضح نفوسٍ ومسالك وتفكير. المال حاضرٌ، يُسبِّب قتلاً. لكنّه ليس سبباً وحيداً لفعل جُرميّ، فالذات البشرية تمتلك، عادة، أسباباً أخرى للقتل.
للكوميديا حيّزٌ، أيضاً، في سرد حكاية "7 نساء وغموض" (2021) للإيطالي أليسّاندرو جينوفيزي (المنصّة الأميركية "نتفليكس"). هذا العنوان أصلي (الترجمة العربية حرفية). ترجمة إنكليزية توضع له: "7 نساء وجريمة قتل". الأجمل كامنٌ في مفردة الغموض. ما يحدث مرتبطٌ أساساً بالغموض، كأيّ جريمة قتل. هناك ما لا يُفهَم ولا يُعرف، قبل أنْ تنجلي أمور، وتنكشف حقائق ووقائع.
مناخ آغاتا كريستي ماثلٌ في "7 نساء وغموض"، المستوحى من "8 نساء" (2002) للفرنسي فرنسوا أوزون، المرتكز أصلاً على مسرحية "8 نساء" (1958) للفرنسي روبير توما. نَفَسٌ هيتشكوكي أيضاً، يظهر في الديكور والمناخ العام والميل إلى عتمةٍ وثلجٍ (الغالبية الساحقة من الأحداث تجري ليلاً)، إلى شيءٍ من حَبْس الأنفاس، وهذا كلّه مُطعَّم بكلّ ما لن يُثير خوفاً وقلقاً كبيرين، بل ضحكاً وتسلية.
الكوميديا غالبةٌ، تتمثّل في مواقف ولحظات وعلاقات. شخصياتٌ تتصرّف بطريقة مُضحكة أحياناً، لكنْ من دون إسرافٍ. هذا يؤكّد قدرة الكوميديا على الإمساك بحدثٍ غير كوميدي (جريمة قتل)، وتحويله إلى مرايا تُعرّي وتفضح، مع شيءٍ مُحبَّب من الضحك. عند اكتشاف الجريمة، ترفض نساءٌ (من بين النساء الـ7) الاتصال بالشرطة. عوامل لاحقة تحول دون الاتصال (انقطاع الهاتف. انقطاع الكهرباء. إقفال المدخل الرئيسي بسلاسل حديدية. أصوات مُخيفة). هذا يُفترض به أنْ يُزيد حدّة التشويق والرعب، لكنّه يُضيف مزيداً من تسلية وضحك.
تصنيف "7 نساء وغموض" كوميديٌّ أولاً، رغم أنّ جريمة قتل تنكشف، قبل أنْ تُكشف نفوسٌ وانفعالات. الجريمة والكشف لن يحولا دون متعة وضحك، بفضل موقف أو تصرّف أو قول أو نظرة. كلّ شيءٍ يكاد يكون مُضحكاً. شخصيات ومواقف وحالات وتصرّفات تكاد تكون مُضحكة، بشكلٍ سلس. لكنّه ضحكٌ متواضع ولذيذ، يحتاج إليه مُشاهِدٌ، يرغب في تسليةٍ، تحمل في طياتها تفكيكاً للنَفْس البشرية، يتعلّق بمسائل عدّة: العلاقات الأسرية، العلاقات الثنائية (أب/ابنة، زوج/عشيقة، ابنة/أب قبل معرفة أنْ لا علاقة أبوية بينهما، الجدّة، الخادمة، العشيقة)، المشاعر، الطموح، الهواجس. هذا كلّه منبثقٌ من جدّيةِ مُعالجةٍ، مغلَّفة بكوميديا مبسّطة وممتعة، مع أجواء يُفترض بها أنْ تُثير قلقاً ورعباً، من دون خروج من التسلية، وإنْ يكن القتل والرعب والتعرية جزءاً منها.
كأنّ هناك رغبةً، مبطّنة أو واضحة، في السخرية من كلّ شيء. أي من تلك المسائل الواردة في الفيلم أصلاً، مباشرة أو مواربة. كأنّ النصّ السينمائي يناقش مسائل حسّاسة في السلوك والتفكير والعيش، بعيداً عن جدّية مفرطة أو دراميّة مكثَّفة، مُشبعتَين بلغة سينمائية. هذا يساهم في التنبّه، مجدّداً، إلى أنْ الكوميديا متمكّنةٌ من مناقشة أحوالٍ ومشاعر وبُنى نفسية وعقلية ورغبات جسدية وروحية، بعمقٍ يتوازن والإضحاك.
حبكةٌ كهذه واضحةٌ. لا توقّعات عامة تستبق ما يُمكن أنْ يحصل. هناك ما يجذب إلى متابعة مسارٍ، يتأرجح بين جدّيةٍ، تظهر سريعاً بشكلٍ كوميدي، وكوميديا، تحاول بلورة نموّها باتّجاه مزيدٍ من الضحك، من دون بلوغ المزيد المرتجى. أي أنّ الضحك مشغولٌ بهدوء وتواضع، من دون حاجةٍ إلى الأكثر من الهدوء والتواضع، فهما أفضل وأجمل وأكثر تسلية. تصوير (فيديريكو مازْيارو) لحظاتٍ، يُفترض بها أنْ تُثير خوفاً أو قلقاً أو ارتباكاً، يصنع ضحكاً لما في كيفية التصوير والتمثيل من إضحاكٍ وسخرية، مع أنّ في بعض التمثيل مبالغةٌ أحياناً، خاصة سابرينا امباشْياتوري (الخالة أغوستينا).
قصرٌ وسط عاصفة ثلجية، وشابّة تدخّن بشراهة في سيارة أجرة، قبل وصولها إلى الباب الرئيسي، الذي تفتحه خادمةٌ جديدة تُدعى ماريا (لويزا رانْييري)، لاستقبال من يُفترض بها أنْ تكون الابنة البكر لصاحب القصر، سوزانا (ديانا دِلْ بوفالو). شيئاً فشيئاً، تظهر شخصياتٍ نسائية عدّة، وصاحب القصر، مارتشيلّو (لوزا باسْتوريلّي)، يبقى غائباً بصرياً، وظهوره نادرٌ، فالجريمة مُرتكبة بحقّه، وسرد وقائع تجعله يحضر في المشهد، بشكل مواربٍ. النساء الـ7 (3 أجيال) المحيطات به سبب هلاكه، كما يُقال في سردٍ، يترافق مع فصولٍ متتالية، كلّ منها يختص بامرأةٍ، وحكايتها وانفعالها وماضيها ورغباتها، وارتباطاتها بمارتشيلّو، وبالنساء الأخريات.
مارتشيلّو مطعونٌ بخنجر في ظهره. هذا كافٍ لبدء مسارٍ طويل من تعرية، روحية ونفسية وانفعالية وعقلية، تتعرّض لها كلّ امرأة، من دون تنبّه منها ورغبة لديها. "فضائح" تنبثق منهنّ، في علاقاتهنّ بأنفسهنّ وبمارتشيلّو، وبأشياء وأناسٍ وتفاصيل حياتية.