2 عربي بلا حد: ذلك الضحك المؤلم

01 ديسمبر 2021
الكاتب والمؤدي عمّار دبا (فيسبوك)
+ الخط -

حرية التعبير، التي تكفلها الديمقراطيات الليبرالية، أخذت تُولّد مع كلٍّ من مرور الوقت وسيرورة التطور السياسي - الاجتماعي، نسقاً تحتياً من التحريم. البذاءة والإيحاءات الجنسية التي تخدش الفضاء العام، إضافة إلى الموضوعات المتعلقة بحقوق الإنسان العامة، كالإشارات العنصرية أو معاداة الأديان، إضافةً إلى المثلية والذكورية، باتت جميعاً تُحسب بالإجماع خارج نطاق الحرية المسموح بها، وإن كانت لا تزال متداولة في منسوبٍ تحت أرضي ضمن الفضاءات الخاصة، من وراء الجدران، في الحانات وخلف الأبواب المغلقة.
وكأي نسق تحريم ينشأ عن أي نظام سياسي، لا بد له أن يُنتج آلية أو آليات مقاومة، تُخفف الضغط الناتج عن أنماط القمع والمنع، مهما خفّت درجة القمع وضؤل مجال المنع. وبالتالي، تؤمن للنظام عوامل التوازن وسبل الاستقرار. الدُعابة إحدى تلك الآليات الرئيسة؛ إذ إنها تُطلِق الممنوع مسحوباً منه القصد، وتُحرر المقموع مُجرّداً من فعل الإساءة. سواءً أكان الفعل يستهدف السلطة ورموزها وأركانها، كما هي حال النُظم الشمولية، أو ينال من قيم التعددية والمساواة في المُجتمع، كما هي حال النُظم الديمقراطية.
خلال العقود الأربعة الأخيرة، ازداد نفوذ اليسار الليبرالي داخل المؤسسات الإعلامية والتربوية في أوروبا الغربية وأميركا الشمالية. أسهم هذا النفوذ المتزايد في تعزيز نوعٍ من الرقابة المُستترة على الفضاء العام، التي تكفل الالتزام بما بات يُعرف بخطاب "الصواب السياسي"، وذلك بغية حجب أي خطابٍ موازٍ قد يحمل في ثناياه، عن قصد أو من دونه، ما يمسّ قيم المُجتمع الديمقراطي الليبرالي. رقابةٌ من شأنها أن ساهمت بالمقابل في ازدهار مونولوج الهزل، أو ما يُعرف بعروض الـ "ستاند آب كوميدي".
من هنا، فإن الـ "ستاند آب كوميدي" يمثل في جوهره نوعاً من الدُعابة السياسية. وإن لن تبدو في الظاهر أيٌّ من البذاءة الجنسية أو العنصرية موضوعاتٍ ذات طابع سياسي، على الأخص بالنسبة لغير الغربي، لجهة أنها لا تهدف بصورة مباشرة إلى نقد سلطان الدولة أو نقض نظام الحكم. إلا أنها في الباطن، صفعٌ تحت الحزام، وإن تحت سقف المُجتمع، ينال من الرقابة المؤسساتية، مُنفّساً ضغط القمع والمنع الناجم عنها، بصرف النظر عما إذا كانت تلك الرقابة حميدة من حيث الوظيفة المنوطة بها، تحت عنوان صيانة قيم المجتمع، لا بل حتى تحت شعار الحرية ذاتها.
"2 عربي بلا حد"، كنايةً عن صحن الشاورما المُعدّ على الطريقة الشامية، هو بمثابة تشييدٍ سوري لمسرح ستاند آب كوميدي جوّال في ساحة المهجر العربي داخل أوروبا. وذلك على شكل قافلة مُتنقلة يقودها كل من الكاتب الكوميدي عمار دبا، والممثل سعد الغفري.

هو بمثابة تشييدٍ سوري لمسرح ستاند آب كوميدي جوّال في ساحة المهجر

انطلقت هذه القافلة في أغسطس/آب الماضي، وما زالت في الطريق، تجول عواصم المغترب السوري والعربي. حلّت أخيراً في برلين وأحيَت عرضاً، شهد إقبالاً كبيراً وتفاعلاً ملحوظاً من جمهور معظمه من الشبيبة، امتد لأكثر من ثلاث ساعات. شارك في العرض أربعة مؤدين، هم جورج عين وأحمد الكردي، علاوةً على مشاركة نسائية لافتة لكل من ليلاس البني وليلى نيربية.
أشد ما ميز كلاًّ من عمار وسعد هو تمايزهما حضوراً وأداءً. دبا، صاحبُ الباعٍ الطويل نسبياً في جنس الـ ستاند آب كوميدي، يعود إلى زمن إطلالاته على منصة كوميدي سنترال. بدا من خلال فقرته، كمن يسعى إلى إرساء منهج راسخ الأركان ومدرسة واضحة المعالم، ضمن مشهدٍ لا يزال حديث الولادة في العالم العربي، والمغترب الغربي الممتد منه.
يُمكن موضعة كل من السرد وتصميم النكات لديه، إضافة إلى كلّ من الإيماء الوجهي والجسدي المرافق والمساند لهما، ضمن إطار نجوم الستاند آب كوميدي الكبار. أكثرهم حضوراً في أسلوبه، لعله النجم الأميركي لويس سي. كيه.، الذي تكبد مشواره الفني منذ عامين، ضربة تبدو كما لو أنها قاضية، جراء مزاعم تورطه بفضيحة جنسية لأجل المفارقة، انطوت على ممارسة أتت متّسقةً إلى حد بعيد مع من بعض من النكات التي عادة ما كان يُلقيها أمام مُحبّيه من خلف الميكروفون.

أما الغفري، فقد اعتمد أسلوباً أبعد عن التمنهج، وأكثر فرديةً ونضارة. استدعى من أجله خبرته ومهارته كممثل مسرحي وتلفزيوني. صمم لنكاته دراما تمثيلية أضفت عليها مشاهدَ وشخصياتٍ وأبعاداً غير مرئية. الأمر الذي جعله يتوسع في المكان ويتمدد بالحركة على الخشبة. الاختلاف في مقاربة الـ ستاند آب كوميدي، لدى كل من عمار وسعد، مدّ العرض بعناصر التنوع والحيوية، ليُحدث ذلك فعل موازنة إزاء تشابه الموضوعات التي طرحها كل منهما، والضيوفُ الآخرون.
فالجميع اتخذ من موضوعة السخرية من الذات مقدمةً للسرد، أو مُرتكزاً له؛ إذ إنها تخلق مساحة بين-شخصية، يشترك من خلالها المُلقي مع المتلقي، تُفضي إلى جوٍّ من التعاطف. هكذا، يتماهى الجمهور بذات المؤدي، ليستقبل النكتة مُسقطةً على حالٍ كان قد عاشها، أو ما زال يعيشها، من دون التجرّؤ ربما على الإسرار بها، نتيجةً لرقابة مفروضة قد تكون ذاتية، مجتمعية أو سلطوية. ذلك بالإضافة إلى أن السخرية من الذات، باعتمادها نقطة بدايةٍ، من شأنها أن تسوّغ الاستطراد في السخرية من الآخر، سواءً كان ذلك الآخر كنايةً عن فرد أو جماعة.

نسقان من التحريم، تارةً يتوازيان، تارةً يتقاطعان، وتارةً أخرى يتداخلان، ومرّات يتعارضان. أحدهما عُلوي قديم يحمله السوري معه منذ وُلِد، وآخر تحتي حديث يعيشه السوري في المهجر منذ اغترب. من شأن تفاعل هذين النسقين في مُعترك الحياة الجديدة، أن يساهم في إغناءٍ مضاعفٍ للدعابة التي تستهدف هزّ آليات الرقابة المُنبثقة عنهما. يُحدث ذلك تفاعلاً عفوياً آنياً وآلياً من قبل الجمهور، سيُفضي إلى الضحك التلقائي الموجع والمريح في آن. إلا أن أيّاً من تلك التفاعلات لم يكن ممكناً لولا مجال الحرية النسبية الرحب الذي يوفرّه الغرب. سواءً لنجوم "2 عربي بلا حد"، أو لجمهورهم العريض من الشباب المُغترب.

المساهمون