"19 ب": مشاهدة ممتعة لخرابٍ وانفعالٍ وتبدّلات

08 فبراير 2023
سيّد رجب حارساً عقار "19 ب": نظرة إلى زمنٌ ولّى (الملف الصحافي)
+ الخط -

أول جملةٌ تُقال في "19 ب" (2022)، للمصري أحمد عبدالله السيّد، تفتتح مساراً حياتياً لحارس عقار مهجور، منذ سنين، يجهد في تأدية وظيفته، رغم مصاعب وتحدّيات واعتداءات. اختيارها في مقالة نقدية ربما ستؤثّر سلباً على قارئ/مشاهد، إذ يُفضَّل، دائماً، عدم كشف لحظات تُعتبر أساسية في النص السينمائي، شكلاً ومضموناً. لكنّ جملةً كهذه، تحديداً، مغريةٌ، إذ تكشف المتتاليات السينمائية، اللاحقة عليها، جوهرها ومعناها، ومغزى افتتاحها حكاية رجلٍ ومدينة وأحوال وعلاقاتٍ وتبدّلات.

لقطةٌ، ذات ثوانٍ قليلة، تظهر قبيل نهاية النص السينمائي نفسه، تُثير رغبةً في قراءةٍ أخرى، تختلف عن تلك المتكوّنة، تدريجياً، في المُشاهدة. لقطةٌ، لعلّها الأعمق تأثيراً والأهم بصرياً وانفعالياً ودرامياً، في نصٍّ يحتال على مُشاهِدِ ترجمته البصرية، بتناوله كمّاً من التساؤلات والوقائع، بلغةٍ سينمائية بحتةٍ، يُحصّنها أداءٌ غير محصورٍ بسيّد رجب، حارس العقار، رغم أنّ رجب نفسه يكاد يكون أساس الفيلم، وكلّ ما فيه من مقاربات وإسقاطات واشتغالاتٍ، تلتزم السينمائيّ في تقديمها تلك المقاربات والإسقاطات، رغم أنّ "19 ب" قابلٌ للتحرّر من كلّ مقاربة وإسقاطٍ، لانهماكه في إنجاز فيلمٍ سينمائيّ، يعكس جوانب نفسية وانفعالية وفكرية وحياتية، في قاهرة اليوم، أو الأمس القريب.

بين جملةٍ أولى ولقطة تستبق النهاية بقليل، يصنع أحمد عبدالله السيد فيلماً مليئاً بأحاسيس وحالات، تعكس وقائع وتفاصيل ومرويّات. حارسُ عقار يتهاوى ببطء (العقار، كما الحارس)، وأناسٌ يبلغون مرتبةً متقدّمة من قهرٍ وانكسارٍ وخيبات، ومدينة تكاد تفقد سيرتها لشدّة التبدّلات القاسية، المفروضة عليها. اللقطة تلك مكتفية بنظرةٍ متبادلة بين امرأة، تُشير ملامحها إلى ثقلٍ وتعبٍ وقهرٍ وإحباط، وحارس العقار نفسه، المتحوّل، لحظة مقابلته المرأة التي تهمّ بركوب السيارة، إلى مراهقٍ يخفق قلبه بحبٍّ وهيامٍ، رغم إصابتهما بعطبٍ، لن يكون مهمّاً، البتّة، معرفة أسباب العطب، إنْ تكن هناك أسباب مغايرة لتعطيل حبٍّ.

مسائل عدّة مطروحة، بين الجملة الأولى وتلك اللقطة: الذاكرة، الالتزام والوفاء، الهوّة الفاصلة بين جيلين، التحوّل القاسي في نفوسٍ وعقول وعلاقات بين هذين الجيلين. هذا بعض المرويّ بسلاسةٍ، تتعمّق في طرح المسائل بمواربة واحتيال سينمائيين، يستدرجان إلى معاينة سينمائية، ممتعة بما فيها من اشتغالاتٍ فنية ودرامية وجمالية وتقنية، لخرابٍ يستفحل في جسد مدينة وروحها، كما في أجساد أفرادٍ وأرواحهم.

العلاقات أساسية في "19 ب": علاقة الفرد بذاته؛ علاقته بالآخر، والآخر أنواعٌ، بعضها يتناقض مع بعضها الآخر؛ علاقته بالحيوانات، فحارس العقار يهتمّ بكلابٍ وقطط، والطبيبة (فدوى عابد) تساعده في هذا، بينما نصر (أحمد خالد صالح)، المتحكّم بالشارع، والمقتحم عزلة حارس العقار لأغراضٍ "دنيئة"، غير مُتردّد في تسميم كلبٍ، أو ربما هذا ما يوحي به تعبير الحارس عن غضبه وقهره، والتعبير شبه صامتٍ. هناك أيضاً العلاقة بالعمارة، فالفيلا المهجورة، التي يحرسها رجلٌ متقدّم في السنّ قليلاً، شاهدةٌ على زمن منتهٍ، وعلى آخر يُلغي المنتهي، ليبني على أنقاضه بشاعته واهترائه ونذالته.

 

 

منافذ كثيرة تتيح تعمّقاً في النصّ والاشتغال السينمائيين (كتابة وإخراج أحمد عبدالله السيد)، وفي رموزٍ/إشاراتٍ، يُمكن أنْ تكون محفّزاً لإطلالاتٍ مختلفة على ما في النص والاشتغال من همومٍ وتساؤلاتٍ، ولعلّ أبرز تلك الهموم والتساؤلات كامنةٌ في رغبة عبدالله السيد في إعادة طرح سؤال السينما، في تفكيك واقع، وسرد حكاية، وتصوير حالة، والتقاط نبض، وعيش تفصيل. فـ"19 ب" يحتمل قراءات عدّة، رغم أنّ الأهمّ بينها يتّصل بصُنع فيلمٍ يقول أشياء كثيرة، بصرياً ودرامياً وحكاية ومشاعر وأحوال.

منافذ كثيرة؟ لكنّ الأهمّ والأساسي يبقيان في أولوية انصرافٍ إلى عوالم النصّ والاشتغال، من دون قيدٍ وتفكير، رغم أنّ التفكير يلحق المشاهدة، لما تتيحه المشاهدة من منافذ إليه، فالنص والاشتغال مليئان بما يُثير حماسة تأمّل. انصرافٌ يُراد له تمتّعاً بما يرويه "19 ب"، وأيضاً بالمبطّن فيه، والتمعّن بذاك المبطّن غير مانعٍ متعةَ مشاهدةٍ. أيامٌ وليالٍ متتالية تكشف، في تدفّقها الهادئ (والهدوء غير معنيّ بسكينة، لما في اليومي من ضغطٍ ومواجهات وتحدّيات وتساؤلات ومشاعر)، هواجس غير مرتبطةٍ فقط بحراسة عقار، وبما تُنتجه مهنةٌ كهذه من سلبيّات ومواقف غير مُحبَّبة، فالهواجس الأخرى تُعنى بشعورٍ وعلاقةٍ ونظرة وهيامٍ صامتٍ، ستكون كلّها حاضنة الحارس وحصنه المنيع إزاء كلّ خرابٍ وفوضى وانهيار (أمْ أنّ الحصن المنيع، كما الحاضنة، وهمٌ لا أكثر؟).

لحظاتٌ كثيرة، في السياق الحكائي والدرامي، دافعٌ إلى تحليل ونقاش. الاكتفاء بقليلٍ من الكتابة غير حائلٌ دون مزيدٍ من التمعّن في خفايا الفيلم وظواهره، أكثر فأكثر.

المساهمون