ليس غريباً ألّا يتذكّر المرء تجاربه السينمائية الأولى، أو مشاهداته الفيلمية المُبكرة في صالات السينما، ولا كيف أثّر به هذا الفيلم أو ذاك، أو كيف شكّلت المشاهدات ذوقه وفكره وكيانه، أو غيّرت توجّهاته وحتّى حياته. بالنسبة إلي، الأمر ببساطة ليس مردّه النسيان، أو التقدّم في العمر، أو انتقائية الذاكرة، بقدر ارتباطه الوثيق جداً بنُدرة وفقر ما عُرِضَ من أفلامٍ فنية، ولا يزال، في صالاتنا السينمائية المصرية البائسة، وكيف أنّهما (النُدرة والفقر) دفعاني دفعاً إلى مُمارسة النسيان، وبقوّة، تجاه ما علق في ذاكرتي من أفلامٍ ومُشاهدات مُبكرة.
عليه، أجدني أفتخر بعض الشيء، بخجلٍ، أنّي لست ابناً بارّاً في قاعات السينما المصرية، على قلّتها، ولا وفيّاً لها أو لذكرياتي القليلة معها. ليس معنى هذا أنّ تجربة تشكل وعيي وخلفيتي السينمائية سيئة، أو غير جيدة في المُطلق. بالعكس. ما يروقني بخصوصها أنّي أنا من ساهم في تشكيلها عن عمد، وكما أردت، وأنّي سعيت عن وعي، وبكامل طاقتي، إلى محو أميّتي/ جهلي السينمائي هذا، عبر بحثي المُضني عن أفلامٍ فنية، وتُحفٍ سينمائية، ونوادر معروفة، من دون سواها، وذلك بعد تجربة عسيرة ومُرهِقة ولاهثة، وإضاعة وقت وجهد وطاقة، في التردّد على المراكز الثقافية الأجنبية في القاهرة: غوته الألماني، والمركزين الثقافيين الإيطالي والفرنسي، وثيربانتس الإسباني، مثلاً. وهذا لمُشاهدة أفلام الـ35 ملم التي كانت تجلبها المراكز خصيصاً لأندية السينما فيها، أو لتنظيم أسابيع سينمائية.
استمرّت هذه التجربة بعض الوقت، حتى بدايات هذا القرن، إذْ لم تكن هناك وسيلة أخرى لمشاهدة الروائع السينمائية المُختلفة غير هذه. حتّى أعرق مكتبات القاهرة لم تكن توفِّر أفلاماً أجنبية، شرائط فيديو أو أسطوانات كمبيوتر، إعارة أو بيعاً. ربما بسبب المناخ العام، السياسي والرقابي والأمني، ورغم استقرار نظام السلطة، وهدوء الأوضاع على كافة الأصعدة، لم يكن مسموحاً بيع الكتب الأجنبية، إلّا على نطاق محدود جداً، كمعرض الكتاب مثلاً، ومعظم كتبه سياحية ودينية وترفيهية، ومرتبطة بالدراسات الجامعية، والمعاجم. أما الكتب الحديثة، الخارجة من مطابع كبريات دور النشر العالمية، فيستحيل توفيرها إلّا عبر الجامعة الأميركية، وطلب اسم الكتاب، ودفع قيمته، فيشترونه لك من المواقع المعروفة. جرّبت هذا الأمر مراراً، ومرّ بسلام، بعد طول عناء وانتظار. عندما حاولتُ تجربته مع الأفلام، قوبل طلبي بالرفض، لأسبابٍ مُبهمة، تتعلّق بـ"المُصنّفات الفنية"، والفحص الجمركي، وغيرهما مما لا يتذكّره المرء لفرط تفاهته.
لذا، لم يكن من سبيل لمُشاهدة الأعمال الفنية الرفيعة، وأحدث الإنتاجات، إلا من خلال ما يجود به برنامج "نادي السينما" في التلفزيون المصري، وما يُسمح بعرضه صدفة في الصالات، أو انتظار مهرجان القاهرة السينمائي، أو التردّد على المراكز الثقافية الأجنبية التي أخذ نشاطها السينمائي يتقلّص تدريجياً، قبل توقّفه أو إيقافه كلّياً. وطبعاً "أندية الفيديو"، المنتشرة سنوات طويلة كالسرطان في أرجاء البلد، كانت بلا جدوى، وميئوس من أمرها تماماً. إذاً، لم يكن ممكناً الحصول على الجديد والقديم مما يتردّد على الأسماع من أصدقاء في الوسط السينمائي، أو من نقّاد يتابعون مهرجانات دولية، أو مما يقرأه المرء في كتب، ويطالعه باستمرار في صحفٍ ومجلات، بعد انتشار الإنترنت.
أحياناً، كنتُ أسأل الأصدقاء وأصدقاءهم، أو الأقرباء المسافرين، توفير بعض الأفلام، كشرائط أو أسطوانات مُدمّجة. كانت تلك معضلة أيضاً، نظراً إلى قلّة المُسافرين، أو عدم تخصّصهم ودرايتهم بأماكن بيع هذه الأفلام، وصعوبة توجّههم خصيصاً إلى مكتبات السينما النوعية والأرشفيات المحلية. الحلّ الوحيد المُتاح آنذاك، والخاضع للصدفة والحظّ، كامن في ما يتوفّر لدى الأصدقاء، بطرق ما، فيصل إليّ أخيراً، بعد عناء انتظار، وإلحاحٍ في السؤال.
مثلاً، أتذكّر أسابيع من المُحايلة والمُساومة مع صديقي المُقرّب، الكاتب والسيناريست مصطفى ذكري (جنة الشياطين، وعفاريت الأسفلت)، ليُعيرني فيلمين كانا لديه: "أندريه روبليف" لأندريه تاركوفسكي (في جزئين)، و"زبريسكي بوينت" لمايكل أنجلو أنطونيوني، مقابل إعارتي إياه كتباً ومجلات لا تتوفّر لديه في مكتبته، وإمداده بما يتيّسر من ترجماتي، حصرياً، قبل نشرها في مجلاتٍ وصحف. أتذكّر قبولي، صاغراً، الذهاب إلى منزله البعيد (أطراف القاهرة)، وتقبّل ابتزازه الحميم لي، مقابل ما أحبّ وأحلم به. أتذكّر جيداً، أيضاً، مدى حرصي على الشرائط، فأخفيها في سُترتي خوفاً عليها، ليس من فقدانها أو ضياعها، بل من الخدش واللمس، وكيف أنّي، قبل وصولي إلى المنزل، آخذها إلى محل ماكينات تصوير فاخر، لأصوّر أغلفتها الخارجية الملوّنة، لألصقها لاحقاً على علب "في إتش أس" خاصة بي، بعد نسخ الأشرطة.
أتذكّر جيداً مشاهدتي الفيلمين مرّات ومرّات، ونسخهما، وكيف كانت تجربة المُشاهدة، المحفوفة جدًا بالمخاطر، خشية تلف هذا الكنز الثمين، أو فقدانه. بعد إتمام عملية النسخ، ألصقت بخرقةٍ الأغلفة القبيحة المستنسخة، شبه الملوّنة، على علب الشرائط، ما شكّل مسخاً زائفاً صبيانياً. لكنْ، رغم كلّ شيء، فرحتُ بكون الفيلمين نواة أول مكتبة سينمائية شخصية لي. ليس لعادة أخلاقية سيئة، أو ممارسة سلوكية ممقوتة، بقدر رغبتي الحارقة في الاقتناء، والفرحة بما حزت عليه، ماطلتُ كثيراً في إعادة الفيلمين إلى مصطفى، جرياً أيضاً على عادته بالنسبة إلى كتبي، إلى أنْ أبلغني، ذات يوم، بأنّه سيحصل قريباً على فيلمٍ جديد، تُحفة سينمائية خالصة لمخرج يوناني، بعنوان "الأبدية ويوم".
ربما كان هذا بعد عامين أو ثلاثة على فوز ثيو أنغلوبولس بسعفة مهرجان كانّ السينمائي عنه. كان الشريط يخصّ صديقنا المخرج الراحل أسامة فوزي، فانتظرنا وصوله إلى منزل مصطفى، أو ذهاب مصطفى إليه للانقضاض على الفيلم، الذي أخبرني مصطفى، بحسرة، بأنّه لا يدري من أين وكيف حصل عليه أسامة. عندما تأخّر أسامة كثيراً، ألححت عليه لأحرجه، فأخبرني بأنّه يُدرّسه لطلبة السينما في المعهد، وأنّه لا يحجبه عنّا، ثم ذكر لمصطفى أنّه أعاره إلى المخرجة ساندرا نشأت.
كنا نتوعّده في سرّنا، بمجرد احتكامنا على الفيلم، وعزمنا على ألا نعيده إليه ثانية. المُثير وقتها أنّي حصلت، عبر الجامعة الأميركية، على كتاب حوارات مع أنغلوبولس، صادر في سلسلة شهيرة للحوارات مع مخرجين من العالم. بمجرّد الانتهاء من قراءته، عزمت على ترجمته. لم أكن قد شاهدتُ أياً من أفلامه بعد، ولم أتّفق مع ناشر. لكن توفّر "الأبدية ويوم"، بعد طول انتظار، كان بشارة لي لأمضي قدماً.
هناك تفاصيل أخرى كثيرة ضائعة ومتداخلة ومتوارية في تلافيف الذاكرة والزمن، عن محاولاتي التالية لاقتناء شرائط الأفلام أو الأسطوانات المدمجة. بعد انقطاع تامٍ عن المراكز الثقافية، وفقدان كلّ أمل في عروض الأفلام العالمية الرفيعة والحديثة في الصالات المصرية، أو التلفزيون، أو القمر الفضائي المصري، وفيه مئات القنوات. إلى أنْ انتهبتُ، ذات يوم، وبعد سنوات من انتشار الإنترنت في المنازل، وازدياد سرعته مع الوقت، إلى وجود مواقع لتحميل ما يروق لك من أفلامٍ وكتبٍ وصُور وموسيقى مُقرصنة. ورغم عدم الرضا الأخلاقي والمهني عن ممارسة القرصنة، وأحياناً عدم توفر كلّ ما يرغب فيه المرء ويحلم به، أو ضعف جودة ونقاء المُتوفِّر أصلاً، يصعب إنكار دور وأثر القرصنة البالِغَين جداً في محو كثير من أمّيتي السينمائية. وفوق ذلك، تكوين مكتبة سينمائية بدائية، عامرة بالتُحف المُنتقاة. بدأ هذا عام 2004، أو ربما 2006.
عندما أتأمّل الماضي، محاولاً استرجاعه ذهنياً، لتحديد أهم الأفلام والمخرجين ومدارس السينما، وأبرز من ساهم في تكوين وعيي وذوقي وخلفيتي، أُدركُ استحالة الأمر، إذْ يختلف ويتباين الأمر كثيراً جداً، ليس من مخرج إلى آخر فحسب، بل من زمن إلى آخر، ومن مرحلة عمرية إلى أخرى. مثلاً، أفلامٌ كثيرة راهنتُ على صمودها وبقائها وعلى فنيّاتها وجمالياتها وعبقرية مبدعيها وفرادتهم وأصالتهم، خفُتت ونُسيت وسقطت تماماً بمرور الوقت. أو ببساطة، حلّت أخرى محلّها، بسبب عوامل الزمن وما يُراكمه، أو قوة وقدرة الفنّ على الإزاحة والإحلال الدائمَين. لذا، يصعب للغاية تحديد أفلامٍ بحدّ ذاتها، ومخرجين معينين، أو سينما بلدٍ أو مدرسة أو موجة سينمائية، إنْ بشكل مؤكّد، أو شبه يقيني. أرى هذا ضد منطق الحياة نفسها، والفنّ. أظنّ أنّ الأمر نتاج دفقات وروافد وتراكمات مختلطة ومتداخلة ومختزنة، هنا وهناك، في كينونة المرء وطبقات لاوعيه، التي ـ دائماً وأبداً ـ في تغيّر وتبدّل وتطوّر، أو انتكاس، إلى أنْ ينقضي العمر.