"يوم العمال" البوسني: مراجعة سينمائية لحرب البلقان

14 يوليو 2023
"يوم العمال": اشتغال جمالي عن موضوع قاسٍ (الملف الصحافي)
+ الخط -

في الحرب، حتّى بعد سكوت دويّ مدافعها، تظلّ أشياء كامنة في نفوس مُعايشيها، لا تغادرها أبداً. تظلّ معهم. يعرفون أنّ الزمن ليس كافياً لمحوها بالكامل. لهذا، تراهم يغطّون على ما بقي في ذاكرتهم من ويلاتها، بعيشهم الزمن الذي يليها، كأنّ كلّ شيء بات من الماضي، ولا معنى لإحيائه ثانية.

قراءة السينمائي البوسني بير زاليتشا (1964)، لحرب البلقان، في "يوم العمال" (2022)، تقول إنّ ما يرسخ في النفوس لا يمكن محوه بإرادوية، ولا بالكذب على الذات. ما غطس عنوة في العمق يوماً، لا بُدّ أنْ يظهر على السطح مجدّداً. لعرض كامل قراءته، يكتب نصّاً سينمائياً (السيناريو له، كما الإخراج والتوليف) يسترجع فيه مشهد الحرب والمتورّطين فيها من الجانبين (البوسنة والصرب)، في قرية بوسنية تاخمت حدودها قرية صربية، وفي الحرب أصبحتا نقطتين تؤشّران إلى أبشع وقائعها. لكنّها اليوم، بعد عقود على نهايتها، يحاول سكّانها التواصل مع الزمن الماضي "الجميل"، بالاستعداد للاحتفال بيوم العمال العالمي، الذي بات أقرب إلى ذكرى منه إلى يومٍ كان البلد (يوغسلافيا الموحّدة) يحتفل به بوصفه رمزاً لنضال طبقي.

اليوم، يجتمع رجال القرية في ساحتها، يناقشون مُطوّلاً ويتجادلون حول أفضل اللحوم التي يمكنهم شراؤها، لإقامة حفلة الشواء الشعبية، التي يحضرها عادة سكّان القرية، الذين يتجمّعون سنوياً حول نيرانها المشعّة فرحاً. هشاشة حاضرهم يكفي لزعزعتها حدثٌ آنيّ واحد. بانتشار خبر مداهمة الشرطة منزل فودو، الذي تُغيَّب صورته ليغدو نموذجاً قابلاً للتوسيع، يسود القرية البوسنية قلق وتوتّر، وتتكاثر الأسئلة عن سبب المداهمة ودوافعها. لن يطول انتظار الجواب: الشرطة تُحقِّق معه بناءً على شكوى عائلة صربية تتّهمه بقتل أطفالها ووالدهم في الحرب.

يمسرح زاليتشا القرية سينمائياً بعد الحدث، ليعيد عبر مَشاهدها اليومية سرد وقائع ما جرى فيها فترة الحرب، وما سيحدث لها بعد اعتقال فودو. يقسم أرضها بين مكان ثابت وزمن قابل للتحرّك، ذهاباً إلى الماضي، ومجيئاً إلى الزمن الحاضر. بانقسام المكان تنقسم المواقف إزاء خطوة الشرطة. النساء يسترجعنَ ذكريات أولادهنّ الذين قضوا في الحرب بسبب قنّاص، تربّص بهم في موقعه الحصين في القرية الصربية المقابلة لقريتهم. لكنهنّ، بخشيةٍ غريزيةٍ، يسكتن عن مقتل طفليه معه، يوم وضع فودو حدّاً لمجازره اليومية، بإطلاق الرصاص عليه من بندقية صيد، أخفاها وأخفت القرية معها أي ذكر للطفلين القتيلين. الرجال يشيدون بشجاعة المتّهم، الذي عاملوه دائماً كبطل قومي. يبرّرون فعلته، من دون اعترافات صريحة، بتعمّد قتله طفلي القنّاص، بدافع الانتقام الأعمى.

بين الجموع المتوتّرة وفوضى المواقف، يصل ابنه أرمين (محمد هازوفيتش) من ألمانيا، مع زوجته الكردية التركية. لحظة دخوله دار والده، يسمع خبر انتحاره في السجن. بحثه في التهمة الموجّهة إليه ستوصله إلى الحقيقة، التي تسترّ عليها الجميع، وتواطأوا مع القاتل لطمس تفاصيلها. لم يحسبوا أنّ الزمن سيعيد ما ترسّب في قاع النهر إلى السطح، ويغدو الماضي شاخصاً أمامهم، وعليهم مواجهته من دون مواربة.

 

 

شجاعةٌ قراءةُ البوسنيّ بير زاليتشا ماضي حربٍ يتورّط فيها كثيرون، وفيها يرتكبون أفعالاً شنيعة بما لا يتوافق، بالضرورة، مع طبائعهم وخصالهم. والده رجلٌ مستقيم وطيّب، لكنّ رغبة الانتقام من القنّاص أعمته، فقتل طفليه معه عمداً. للإمساك بالخيط الرابط بين الفعل وتأثيراته اللاحقة، يعرض "يوم العمال" ـ الفائز بجائزة أفضل فيلم، في الدورة الـ38 (14 ـ 23 أكتوبر/ تشرين الأول 2022) لـ"مهرجان وارسو السينمائي" ـ المشهد الحاصل بعد الحرب، في قريةٍ مَسرَحتُها سينمائياً تُحيلها إلى بوسنة مُصغّرة، هجرها أبناء كثيرون لها، ومن لم يحتمل قسوة ما عاشه في حربها، لجأ إلى الدين أو المخدّرات. أضحى رجالها، بعد نهايتها، كائنات هشّة، يُبدّدون عجزهم بالثرثرة، وبما يوحي بأنّ الحياة باتت عندهم رحلة ملزمَة، لا معنى كثيراً لها (لأمير حاجي حافظ بيك وبوريس إيساكوفيتش وميرفاد كوريج أدوار رائعة).

في مواجهة ذلك المشهد الذكوري الخامل، تظلّ النساء أكثر حيوية وقدرة على التكيّف والتعايش مع حاضرٍ، يعرفن قسوة ما يحمله من هموم وأوجاع. في منجز بير زاليتشا، القرية البوسنية، في لحظة مكاشفة ذاتها، تغدو أقل قسوة ورياءً. لكنّ الندم والحزن لم يفارقا أهلها، والهجرة منها غدت حلاً لشبابها، فكلّ ما فيها يُذَكّر، أو بانتظار لحظة التذكّر، بأنّ المظلومية لا تجيز ارتكاب أفعال مُستَنْكرة، ولا جرائم.

هذا ما يوصله "يوم العمال"، المُنجز باشتغالاتٍ جمالية قاربت بين مسرحة أحداثه وتجسيد باهر لمسارات أزمنته الدرامية، التي تُعيد إلى الذهن حقيقة أنّ سينما منطقة البلقان فقيرة مادياً، لا تملك بَطَر العبث بأموال إنتاجية كبيرة، لكنّها تملك في الوقت نفسه كلّ مقوّمات صناعة سينما جميلة ورائعة، أحياناً كثيرة.

المساهمون