يحيى خليل... الموسيقي في سيرة مضادة

11 أكتوبر 2023
لم تنجح تعاوناته مع مغنّين سوى محمد منير (فيسبوك)
+ الخط -

"ملك الجاز"، و"رائد الجاز الشرقي"، و"أسطورة الجاز". هذه جميعها ألقاب تُطلق على الموسيقي المصري يحيى خليل (1943)، وهي وإن عبرت عن مسيرة طويلة لرجل شهدت محطات في حياته نجاحاً كبيراً؛ فإنها تشير أيضاً، بمبالغاتها، إلى قدرة على التسويق، ربما تبلغ حد التلفيق، فسيرة خليل كما يرويها تحمل ثغرات واضحة تسمح بإعادة معالجة الحكاية، لنحصل على أخرى مختلفة إلى حد بعيد. يتحدث خليل في لقاءاته التلفزيونية عن أنه أسس فرقة للجاز وهو في الرابعة عشرة من عمره (1957)، بعدما تعرف إلى هذا اللون الموسيقي من إذاعة صوت أميركا، التي خصصت ساعة يوميا له في ذلك الزمن. ورغم أن يحيى لا يقدم أي معلومات عن هذه الفرقة غير اسمها "رباعي القاهرة لموسيقى الجاز"، فإنه يروج ريادته للموسيقى الأفروأميركية في مصر، بناء على تأسيسيه تلك الفرقة. هذه الريادة المزعومة لخليل تغفل اسم مهم ظهر في عالم الجاز في مصر في ذات الفترة، هو صلاح رجب، الذي درس العزف على آلة الدرامز والجاز في أميركا مدة قصيرة، ثم عاد وانضم إلى فرقة عازف الساكسفون الأميركي ذي الأصول الأفريقية ماكس سبيرز، ليتعلم رجب (1938 ـ 2008) على يده أصول موسيقى الجاز. في رواية خليل التي يتحدث فيها عن ريادته، زعم أنه وهو ابن الرابعة عشرة ضم إلى فرقته الموسيقي الأفروأميركان ذاته، الذي كان يعزف في كازينوهات القاهرة وقتها بشكل احترافي، كما أسس فرقة انضم إليها رجب عازفاً.

هذه اللمحة المثبتة في سيرة رجب تدحض ما يسوقه خليل، فلا يمكن لفتى في الرابعة عشرة أو فوق ذلك بقليل أن يضم إلى فرقته عازف ساكسفون محترفاً مثل سبيرز، عوضاً عن أن الأخير، مثل ما ورد في سيرة رجب، كانت له فرقة يعزف من خلالها في الكازينوهات. وغالب الظن أنه إذا كان لخليل صلة بسبيرز؛ فهي أن الموسيقي المصري التحق لفترة ما بفرقة العازف الأميركي، وهو ما أكده يحيى نفسه من خلال واقعة ذكرها في أكثر من لقاء تلفزيوني. حكى خليل أنه في تلك الفترة احتاجت فرقته إلى عازف. وبحسب روايته، كان يعرض العازفين المتقدمين على سبيرز ليرفضهم تباعا. وهذا بالطبع لا يتفق وكون خليل هو صاحب الفرقة، بل يثبت العكس، أنه كان مجرد عضو فيها. بهذا، فإن رائد موسيقى الجاز في مصر هو صلاح رجب، الذي أسس فرقة لهذا اللون، معروفة أسماء أعضائها، وذلك حين عُين قائداً لإدارة الموسيقى العسكرية في الجيش المصري، عندها اختار من بين أفراد الإدارة عشرين عازفا، وأرسلهم إلى أحد المعسكرات للتدريب على الجاز، تحت إشراف زميليه السابقين بفرقة سبيرز، وهما الموسيقي الألماني هارتموت غيركين (Hartmut Geerken)، وعازف الغيتار التشيكي إيدو فيزفاري. ومن هذا المعسكر، تأسست أول فرقة مصرية محترفة للجاز تحت اسم "كايرو باند جاز"، ضمت كل من سيد سلامة (ساكسفون) وخميس الخولي (بيانو) وذكي عثمان (بوق)، لتطلق أولى حفلاتها من الجامعة الأميركية سنة 1969، وقدمت الفرقة خلال حفلاتها بعد ذلك مقطوعات من تأليف صلاح رجب، مثل "مصر تتبختر" و"فجر" و"رمضان في الفضاء". في تلك الأثناء، غادر خليل إلى الولايات المتحدة، وهو في سن العشرين، للدراسة والعمل، حيث قضى 15 عاما يعزف مع فرق الأندرغراوند، وعدد من المغنيين الأميركيين المغمورين. عاد بعدها إلى مصر سنة 1979، لينضم إلى فرقة هاني شنودة، لكنه أسقط هذه الفترة من سيرته التي يرويها في لقاءاته، فقد قدم من أميركا عازفا عالميا، بحسب زعمه. بعد فترة قصيرة من انفصاله عن هاني شنودة، أسس خليل فرقته، والتقى بعدها محمد منير بناء على ترشيح من شنودة، ليبدأ معه تجربة هي الأكثر نجاحاً في تاريخ خليل.

في رواية الموسيقي الشهير، يُعرف منير باعتباره أبرز النجوم الذين قدمهم، متجاهلاً في أحاديثه وحواراته الصحافية والتلفزيونية أن من رشحه للعمل مع منير هو هاني شنودة، الذي قدم منير في ألبومي "علموني عينيكي" و"بنتولد". كما أن شنودة هو من قدم عمرو دياب الذي رفضه خليل، طالبا منه العودة إليه بعد خمس سنوات. هذا لا يمنع من إثبات ذيوع باهر حققه خليل مع منير منذ ألبومهما الأول معاً، "شبابيك" (1981)، الذي جاءت مبيعاته الأعلى وقتها، لتتوالى النجاحات مع "اتكلمي" (1986) و"وسط الدايرة" (1987) و"بريء" (1986).

لكن خليل، أثناء سرده حكايته مع منير، لا يأتي أبدا على ذكر أعضاء فرقته الذين لم يقتصر دورهم على العزف، بل كانوا شركاء بنصيب كبير في المشروع الغنائي عبر التوزيع الموسيقي لأغاني الألبومات. الأول هو فتحي سلامة، الموسيقي المصري العالمي حقا، فهو العربي الوحيد الحاصل على جائزة غرامي (2005). والثاني عزيز الناصر عازف الباص غيتار، والموزع الموسيقي والثالث مايكل كوكس، وجمعيهم اشتركوا في توزيع أغاني ألبومات منير. وعلى قدر تعدد المساهمين في هذا المشروع الفني الكبير وتميزهم، جاء النجاح باهراً وملهماً لجيل الثمانينيات من المغنين والمطربين. لكن منير، على أثر ما حققه، رغب في أن يكون للنجاح الأبرز وقتها على الساحة الغنائية أبا وحيدا، بينما رأى خليل أنه من صنع منير، وأن عليه الامتثال لصانعه، الأمر الذي لم يحدث، لتتصادم الرغبتان، ويقع الانفصال. استثماراً لهذا النجاح البارز، روج خليل في سرديته أنه "صانع النجوم". لكنه لا يقدم اسماً آخر غير منير، فإذا ما تتبعنا محاولات يحيى المتعددة بعد انفصاله عن منير، فلن نصادف نجاحا يذكر له.

 جاءت المحاولة الأولى مع مصطفى قمر، إذ صرح خليل، حين بدأت خلافاته مع منير تشتد، أن قمر هو مطرب مصر القادم الذي لن يفوقه أحد، وأن إمكانيات صوته ستهزم الجميع، وأسفر التعاون بينهما عن ألبوم "لما تنامي"، غير أن منير أفشله حين جاءت أغاني الألبوم مجرد استنساخ لما قدمه مع خليل، ليعدل قمر وجهته تجاه حميد الشاعري، وعلى أثر ذلك، ينفتح أمامه باب النجاح واسعا، بعد طرقة خفيفة مع أغنية منفردة، هي "ولا يابو خد جميل"، لتتوالى بعدها النجاحات مع ألبومات "وصاف" و"لياليك" و"سكة العاشقين". تكررت تجربة فشل خليل مع ألبوم "البنات" (1989) الذي ضم سبع مغنيات، اختفين جميعهن بعدها، عدا المغنية أميرة التي تعرف إليها الجمهور مع حميد الشاعري من خلال ألبوم "أول كلامي" (1993)، ورغم ذلك لم تستمر طويلا واعتزلت. البحث عن اسم آخر غير منير في "الجمعية الخيرية لصناعة النجوم"، مثل ما يصفها خليل، لن يفضي إلى شيء.

المساهمون