لا تتّفق عليه الآراء. لم تتفّق يوماً. إمّا إعجابٌ بفيلمٍ أو فيلمين له، وإمّا كره لهما، ولغيرهما. إمّا أن يشدّ بأسلوبٍ سينمائي فريد في معظم أفلامه، وإمّا أن تقرّر أنّه ليس من طينة المخرجين الذين يثيرون إعجابك، فتُهمِل أعماله كلّها. في نصوصه السينمائية عبثية، وشخصيات بشرية أو حيوانية غير عادية، وخيالية أحياناً. لكنّها كلّها، الأفلام والشخصيات، لا بُدّ أنْ تُثير ضحكات. هذا شيء تتّفق عليه الآراء.
الفُكاهة حاضرة دائماً في أفلام المخرج وكاتب السيناريو الفرنسي كونتان دوبيو. لكنّها لا تمتُّ بصلة إلى أفلام الفكاهة، التي اشتهرت بها السينما الفرنسية. هذا عائدٌ إلى المزيج العجائبي الغرائبي الذي يتحكّم بقصصٍ يكتبها بنفسه، وبشخصيات غير متوقَّعة، وأخرى مُخترَعة، تقع في منتصف الطريق بين الواقعي والخيالي. حتى هؤلاء الذين لا يميلون إلى سينماه، يدفعهم الفضول إلى مُشاهدة إنجازاته، لمعرفة ما الذي سيتفتّق عنه خياله هذه المرة.
إذاً، تتفاوت المشاعر إزاء أعماله. ربما تثير الاستغراب، حين يتنافس العبث مع الهراء، مع لمسة من وحشية رجل يتخلّى عن كلّ شيءٍ لشراء سترة من الجلد ذات شرائط، كما يفعل جورج (جان دو جاردان) في "جلد الغزال" (2019)؛ أو الضحك الشديد مع رجلين سخيفين تماماً، يروّضان ذبابة عملاقة، كما في "الفكّ السفلي" (2020)؛ أو التململ أمام معركة شرسة ضد سلحفاة شيطانية، لخمسة أبطال خارقين زرق، يطلق عليهم اسم "قوة التبغ"، كما في "التدخين يُسبّب السعال" (2022)؛ أو تبعث على الإعجاب والاستمتاع بقصّة شبه واقعية، مع "يانيك" (2023)، المُشارك في المسابقة الدولية للدورة الـ76 (2 ـ 12 أغسطس/آب 2023) لـ"مهرجان لوكارنو السينمائي الدولي"، والمعروض تجارياً في الصالات الفرنسية، منذ 2 أغسطس/آب الماضي.
كونتان دوبيو (1974) يحقّق فيلماً كلّ سنة تقريباً. أنجز خمسة في السنوات الأربع الأخيرة، وفيلمين عام 2023. لم يُعلِنْ عن "يانيك" إلا بعد إنهائه. في الوقت نفسه، كان يعمل على "داااااالي"، عن سلفادرو دالي (لم ينته بعد)، سيرة ربما حقيقية وربما مزيّفة عن الرسّام الإسباني، فمعه كلّ شيء مُمكن. صَوّر "يانيك" في ستة أيام. فيه، يعود إلى حبّه الأول، المتمثل في إنجاز فيلم مستحيل، لم يكن مُقدّراً له أنْ يوجد. فيلم انحرافٍ عن مسيرة، وابتعادٍ عن طرق تقليدية في الإنتاج والتصوير، وفي القصّة أيضاً، نوعاً ما. إنّه كخروج سيارة عن طريق سريعة ومألوفة، لاكتشاف أخرى جانبية ومنعشة وقصيرة. فمدّة "يانيك" قصيرة (67 دقيقة)، ودوبيو يُقدّم جديده هذا، في كتيّب المهرجان، بالقول إنّ "99 بالمائة من الأفلام مُملّة. هذا ليس كذلك".
خلافاً لمعظم أفلامه السابقة، لا يعتمد "يانيك" على اللامعقول. ربما هناك شيء من عبثية، باتت علامة مميزة له، لا يمكن أنْ تفارقه، حتّى في فيلم يبدو، لوهلة أولى، عادياً في قصّته. العادي وصفٌ مناسب لشخصية يانيك (رافايل كُنار)، فهو من أولئك الذين يُشار إليهم في فرنسا بـ"الفرنسي المتوسط". هذا العادي في كلّ شيء: شكله وعمله وسلوكه وآراؤه. شخصٌ من الناس العاديين، الذين تنظر إليهم النخبة المُثقّفة بشيءٍ من استعلاء، تشوبها سخرية أحياناً. نموذجٌ لهذا المتفرّج الذي لا يُثير الاهتمام كثيراً، ويُستغنى عن آرائه، وعن سعي إلى إعجابه.
هنا الأساس: يانيك شابٌ من الضواحي، يعمل حارساً في موقف سيارات مفتوح ليلاً نهاراً. يحضر مسرحية من "مسرح البولفار"، نوعٌ يهدف فقط إلى إرضاء الجمهور، بتأثيراتٍ وجهود متواضعة. يُراد للمسرحية أنْ تكون هزلية، عن ثلاثي تقليدي وتاريخي: زوج وزوجة وعشيق. تُثير المسرحية ضحكات خافتة وخجولة، كأنّها على استحياء، تجاوباً مع مواقف هزلية لا تُضحك. يعترض يانيك، ويبدأ حواراً طويلاً مع الممثلين في مشهد متواصل، بعد رفضهم تحدّيه الأول لسَير المسرحية. يرفضون احتجاجاته، فينطلق في شرحٍ مُسهب عما تطلّبه حضوره من تحضيرات وإجراءات، كالحصول على إجازة، وقدومٍ استلزم وقتاً وجهداً من الضاحية الباريسية، ودفع ثمن بطاقة ليتسلّى، وهو لا يتسلّى. هم يتسلّون به، ولا يعترفون بالجمهور، مع نصّ سيء، وتمثيل رديء.
بمداخلته، قَطَع يانيك الحاجز بين المسرح ومن عليه، والجمهور. هذا الصمت المبجّل والخشية. يقولها بوضوح: القدوم كَلّفه ليستمتع، وهو لا يستمتع. بداية الفيلم مُوفّقة للغاية، ترتفع فيها ضحكات الصالة. لكنّه يتعثر في منتصفه، كأن دوبيو يبحث عن وسيلة للخروج، ثم يستدرك سريعاً الزمن المتأرجح، الذي يُنتَظر فيه شيءٌ لا يأتي، أو حوار لا يتطوّر، فيخلق حدثاً له وَقْع المفاجأة: يأخذ يانيك المسرح وسكّانه، من ممثلين وجمهور، رهائن، مُهدِّداً الجميع بسلاحٍ، انتظاراً لكتابته هو نصّاً يقترح فيه إمتاعاً لناظره.
تبقى الكاميرا حبيسة الجدران. كلّ شيء يدور في المكان المغلق، والزمن كأنّه حقيقيّ، مدّة مسرحية تافهة. كلّ عبارة ينطقها يانيك تُشكّل تصعيداً درامياً، يقود إلى ردّ فعل، لا سيما من الممثلين الثلاثة. الجمهور القليل أكثر سلبية، بل إنّ دوره شبه غائب. كأنّه تأكيد إضافي من الفيلم على استسلام مُدهش، جرّاء أحداث، مهما بلغت خطورتها. حوارات يانيك مع الممثلين والجمهور مكتوبة جيداً، وتحمل رسائل أساسية في العمق. وخلف الضحكات العالية، التي تُثيرها، دعوة إلى التأمّل في عالمٍ مُزيّف وكئيب، ومراجعة عبر الفكاهة لقضايا، كالفنّ والتسلية ودورهما في الحياة، كما لتلك العلاقة المعقّدة أحياناً بين الفنان والجمهور، وتوقّعات الثاني التي لا يُحقّقها الأول، وانفصال هذا عن هموم الثاني.
لكنّ دوبيو، كاتب "يانيك" ومخرجه، لا يريد حرباً بين الطرفين. أظهر شيئاً من تعاطف مع ممثلين فاشلين، لا يخفون فشلهم واضطرارهم إلى عمل أي شيء، وميله إلى يانيك، أي الجمهور، أكثر ترجيحاً. تمكّن من تمرير هذا الميل إلى المشاهدين، ليس فقط بسبب خفة ظلّ المواقف التي أدّاها بطله، بل لأنه اختار ممثلاً لا يُمكن إلا التعاطف معه، بسبب حضوره الظريف، وقوّة أدائه ودقّته وعفويته. ولعلّ دوبيو كتب الفيلم خاصة له. فرافائيل كُنار (34 عاماً) يفرض نفسه في السينما الفرنسية، هذا العام. وهذا تتفّق عليه آراء نقّاد وجمهور.