منذ الجملة الأولى من التعليق، المَروي بصوت المخرج نفسه وبضمير المتكلم، يُباغت "منجميون" ـ أول وثائقيّ لوهيب مرتضى، المخرج المغربي المُقيم في فرنسا ـ باستثنائيّة مُقاربته، حدّ الذاتية الشعرية، فيما يبدو، لوهلةٍ أولى، مُناقِضاً لروح الاستقصاء حول المدينة العمّالية "جرادة" (شمال شرق المغرب)، شبه المنكوبة اليوم، بعد 20 عاماً على إغلاق منجم الفحم الحجري، الذي كان مصدر الرزق الأساسي لسكّانها، منذ عشرينيات القرن الماضي.
قرارٌ مُفاجئ وغير مفهوم ألقى بالمدينة الصغيرة في التهميش والتداعي البطيء، وحَكم على من تبقّى من منجميّيها بمزاولة التنقيب المعيشيّ، بصفة عشوائية و"سرّيّة"، في حُفَر مُرتجلة وبالغة الخطورة، ربما تنهار فوق رؤوسهم في أيّ لحظة، مُقابل ثمن بخس يسدّ، بالكاد، حاجاتهم الأساسية. ثمن يتلقّونه من مالكي رخص استخراج الفحم، من الأعيان وأصحاب الحظوة لدى السلطة، في تركيبة غريبة بين منع الاستغلال علناً، وإغلاق العيون على مَظاهر الريع والاستغلال في الخفاء.
هذه إحدى تجلّيات ازدواجية الممارسة السياسية في المغرب. سريعاً، نُدرك أنّ موشور الحكاية الشعبية وأمثلة القدماء ليست سوى مقاربة، صادقة وذكية، من المخرج، لملامسة مأسوية شرط المنجميين، من دون أنْ ينظر مباشرة في المأساة، كما يوجّه بيرسيوس إلى ميدوسا انعكاس صورتها على الدرع، حتى لا تحوّله نظرتها إلى حجر، في الأسطورة الإغريقية؛ وكما يُجمّد مرض الـ"سيليكوز" (داء الرئة الصواني) أنسجة الرئة في صدور العاملين في المناجم، بفعل استنشاق غبار الفحم، في غياب أيّ شرط صحيّ، أو تغطية لمصاريف العلاج.
كي يُقنع نفسه بصدق المبادرة، التي يقوم بها، بتصويره الوجوه المسودّة بتأثير الفحم، وضيق الأفق، لمراهقي "الساندريات" ("الحفر الغائرة"، بالمحكية المحلية)، يُعدّل وهيب مرتضى كلّ اختياراته على إيقاع عيشهم، وسرّية شرطهم، وهشاشة وضعهم، فتخرج الصورة مُهتزّة بإيقاع انقطاع أنفاسه أثناء متابعته المستمرة لهم في العمل وأوقات الاستراحة، والصوت يختلج باضطراب شروط عملهم، وبدائية عتادهم، وانكشافهم أمام عوامل الطبيعة والرياح الجبلية الملحّة، وإيقاع الصور يُطبع بمزيج من توتّر الخطر المحدق، ومسافة السخرية السوداء المميّزة لشخصية أهل الشرق عادة.
بهذه الطريقة في "منجميون"، تتحقّق القاعدة الذهبية لاتّساق كلّ عملٍ فنّي، المتمثلة بتناغم الشكل مع المضمون، فضلاً عن رابطٍ، كالحبل السرّي (السرّية مرّة أخرى)، يتجاوز الالتزام إلى الانخراط الإنساني في المشروع الفني، قلباً وامتداداً في الزمن.
بعد فوز "منجميون" بجائزة أفضل أول عمل، في المسابقة الرسمية للأفلام الوثائقية، في الدورة الـ26 (4 ـ 10 يونيو/ حزيران 2021) لـ"المهرجان الدولي لسينما بلدان البحر الأبيض المتوسط بتطوان"، التقت "العربي الجديد" وهيب مرتضى في هذا الحوار:
(*) يدل "منجميون" على ارتباطٍ عميق مع سكان "جرادة"، ووضعية عمّال المناجم "السرّية"، ما انعكس في نبرته الذاتية، بقدر ما تجسّد في الانخراط الكامل في المشروع، وامتداده في الزمن. كيف ولدت هذه الصلة القوية؟ وكيف انعكست على الاختيارات التي حدّدت شكل الفيلم ومحتواه؟
ـ أهل "جرادة" مرحون وجادون في الوقت نفسه، كما هو الحال في رقصاتهم وأغانيهم. عندما يتحدثون معك عن أمور جادّة، يُفضّلون السخرية، على أن يأخذوا أنفسهم على محمل الجدّ. أردتُ أنْ يبدو الفيلم مثلهم.
"كنتُ في الخامسة من عمري. أتذكّر يوم شتاءٍ قارس. والدي. مُعلّمي الذي يسحبني من يدي ليُعيدني إلى مدرسة "ابن سينا" في جرادة". بهذه الجملة الافتتاحية، التي قيلت في الدقيقة الأولى، ينطلق الفيلم. لا أحد ينسى اللحظات الحاسمة لطفولته. ذلك اليوم، بالنسبة إليّ، طَبَع حياتي. في "جرادة"، عشتُ طفولتي ومراهقتي، ولاحقاً مرحلة البلوغ. ثم عشتُ حياتي شاباً، وقمت بعملي الأول، فنيّ هندسة مدنية، في تلك البلدة الاستثنائية. لم تكن لدينا تصاميم إرشادية. بل لم يكن مكتبنا الفني يتوفّر حتّى على طاولة رسم. النافذة الوحيدة التي تطلّ على الفناء، كان زجاجُها مكسوراً.
عندما غادرت "جرادة"، عاهدتُ نفسي بألا تطأ قدماي أرضها مرة أخرى. مع ذلك، بعد أعوامٍ من خطواتي الأولى فيها، عدْتُ إليها رغماً عنّي. شاء القدر أنْ يكون لي، أنا ابن المُدرّس، طفل سبط لعامل منجم فيها. احتفظتُ بذكريات الطفولة هذه، عن مدينة بدت لي شديدة السواد من سمائها إلى أرضها، ومداخنها التي تُطلق روائح كبريتية، بطعمٍ مُرّ وحلو، مُبدّدةً أجواء الموت التي تتجوّل بين الأحياء، كأعواد بخور لا تنطفئ، قرباناً لأرواح ضحايا المناجم.
لم أنسَ أبداً وجوه رجالها، المُسودّة بغبار الفحم، وهم يركضون صعوداً ونزولاً من الشاحنات التي تنقلهم إلى المنجم، ليل نهار. ذلك اليوم، وما كنتُ أراقبه في تلك الرحلة الكونية في ذلك الزمن، كان يعود إليّ بشكل مُتردّد، كسلسلة صُورٍ لم أستطع ترجمتها إلى كلمات. كان ذلك أقصر طريق سرتُ فيها، وشعرتُ أنها الأطول في حياتي.
"منجميون" حكاية. قصّة طفولة، أو نصف طفولة، طَفَت على السطح. فيلمٌ وثائقي، يحاول موازنة شائعة، اكتسبت أرضية صلبة.
(*) كيف ومتى جاءت الفكرة، الرائعة والمحفوفة بالمخاطر، بإضافة تعليق صوتي فردانيّ، يُشكّل هيكل القصّة إلى حدّ ما؟ ألم تخشَ أنْ يودي ذلك بالمسافة اللازمة للجانب الاستقصائي للمشروع؟
ـ عام 2000، عندما أُغلق المنجم، ظهرت في البداية شائعةٌ تقول إنّ "عامل المنجم لا يُمكن أنْ يكون سوى عامل منجم". رغبتُ في فهم لماذا أراد مديرو المنجم أنْ يغلقوا، بالمتاريس، على مصائر الأجيال العاملة، عبر هذه الخرافة. أصبح موضوع الفيلم، الذي كنتُ أخطّط لتصويره عن "جرادة"، أكثر تعقيداً، عاماً تلو آخر. بل أكثر من تعقيد القرار الفجائيّ بإغلاق المنجم نفسه.
جذب الموضوع اهتمام مراسلين تلفزيونيين وصحافيين عديدين من العالم. التقارير التلفزيونية الوطنية والدولية العديدة، عن "جرادة" والحوض المنجمي والعواقب الاجتماعية والاقتصادية التي تلت الإغلاق، تتّسم بالراهنيّة. لتوثيق عملي، كان عليّ مُشاهدة ودراسة مواد سمعية وبصرية وأرشيفية كثيرة.
أخيراً، اضطررتُ إلى ثني نفسي عن التعامل مع قضية "جرادة" بصفتي الشخصية، لا كمجرّد مُراقب يُقدّم معاينة جديدة، تُضاف إلى ما سبقها. لكنْ، بمزج شخصيتي مع أطفال المدينة، لم يكن في نيّتي إنجاز فيلمٍ يسرد الأحداث التي ميّزت تاريخ المدينة المنجمية، كما يبحث صحافيٌّ عن سَبَقٍ (سكوب).
"منجميون" جزءٌ أول من قصّة وثائقية، ستكون ثلاثية. فيه، حقّقتُ نوعاً وشكلاً فرضا نفسيهما عليّ. كان عليّ أنْ أمزج نفسي بظلّ المدينة، التي بقيت خارج الحقل، بينما ظلّت السياسة خارج اللعبة. التزمت بتقفّي بلاغة أسطورة كهف أفلاطون، باستلهام كلام القدماء. وجدتُ حرية كبيرة في هذا الأسلوب السردي، ومساحة تُلبّي تطلّعاتي كمخرج.
(*) من النقاط الأساسية لنجاح "منجميون"، أنّه يحمل في "جسده" (صورة مرتجفة وصوت مضطرب) ندوب القيود التي طبعت تحقيقه، لا سيما فيما يتعلق بسرّية التصوير التي تُحيل على سرّية التنقيب. هل كان هذا الاختيار نتيجة تفكير مُسبق، أو ثمرة ردة فعلٍ على إكراهات مادية ومعنوية؟
ـ عندما عدتُ الى "جرادة"، بعد أعوامٍ من الغياب، كنتُ أصوّر أثناء تجوّلي في ضواحي المنطقة المنجمية، على خطى هؤلاء المنجميين الذين يُنعتون بـ"غير الشرعيين"، في أرضٍ هي أرضهم. بينما أرافق مُشاهد الفيلم باهتزازات صوتي. عدتُ إلى مسقط رأسي لأتجوّل، غير مُتأكّد مما سيحدث. يتزعزع الإطار باهتزاز مساراتي، كالحال في حياةٍ مليئة بالحطام والعقبات. أحاول اللحاق بتيار التاريخ، وأروي قصّتي الصغيرة، عبر مواجهتها في عيون هؤلاء الأطفال القاصرين، أبناء المنجميين، الذين صاروا بدورهم منجميين.
أحبُّ بلوغ جوهر الأشياء، عندما يتعلّق الأمر بالإكراهات تحديداً. بقدر قوّة هذه الأخيرة، يتعيّن علينا خلق بدائل. أضعُ نفسي في مكان القاصرين، "غير الشرعيين" مثلي، أنا الذي أوجد في ساحة معركتهم، من دون أنْ أطلب أيّ رخصة، باستثناء ترخيصهم هم. يخبروننا جميعهم أنْ لا خيار آخر كان أمامهم ليقوموا به غير هذا العمل. من ناحيتي، كان عليّ أنْ أفهم ما يمكنني تقديمه لهم، بأن أكون معهم، والكاميرا في يديّ.
اللقطات المتواصلة، التي صوّرتها في المناقشات التي جمعتني بهم، طويلة للغاية، إذْ لم أتوقّف عن التصوير إطلاقاً، حتّى أثناء المشي، من دون أنْ أقلق بشأن الإطار المتشنّج الذي يهتزّ باستمرار، والحوادث المتعلّقة بالصوت، التي تُساهم في تأجيج دراماتورجيا المَشاهد المُصوّرة.
أساساً، هذه طريقة خام وقاسية، كقسوة الواقع الذي يصعب للغاية تحمّله، بالنسبة إلى أطفال "ما بعد المنجم".
الصُور المُهتزّة لم تكن مُتوقّعة مُسبقاً. ليست مُخطّطاً مُعدّاً سلفاً. جعلني وضع المُصوّر أثناء المشي أقتنع بأنّ النيّة الأصدق تكمن، بالضّبط، في وضعية المشي هذه، وأنّ المونتاج سيكون حيلة لاستعادة الرابط المناسب مع ما يحدث لي أثناء هذه العملية، حين أتقدّم بنفسي في تحقيقي، بهذه الطريقة السرّية، التي تُحيل على سرّية وضعية المنجميين.
هناك علاقة ثقة متبادلة تربطني بهم، من خلال هذا الجانب العفوي، غير العابئ بالعواقب. عندما تنقطع أنفاس المنجميين، يقولون لي: "الحياة هنا طعمها حلو ومُرّ. في العمق، عندما لا يكون لديك خيار، فإنّ الحياة ليست مُعقّدة. كلّ ما عليك فعله أنْ تحفر". وبالحفر، في مادتي الفيلمية، أدركتُ هذه الاستعارة حول بساطة اللحظة، في مواجهة جسامة الواقع. عندها، يغدو الصدق قاعدة، ويتحوّل الواقع نفسه إلى خيال.
(*) تدل المدة القصيرة، نسبياً، للفيلم (47 دقيقة)، مُقارنة بطول فترة التصوير، على الأهمية المُضاعفة للمونتاج. في أي ظروفٍ تمّت العملية؟ وما هي أكثر الاختيارات حسماً في تحديدها؟
ـ أنشأتُ علاقة مستديمةً مع الفيلم. لم أتخلّ عنه، بعد 14 عاماً من المحاولة والفشل، والتحقيقات الخطرة والمُكلفة أحياناً. لا أزال مُستمرّاً في تصوير المناجم وعمّالها، في كل مرّة أعود فيها إلى "جرادة".
عامل الزمن ضروري، كي تكون جزءاً من "سينما الحقيقة". يأخذ هذا العامل أبعاده الكاملة، ويفرض عليك أنْ تكون جاهزاً دائماً، بفضل الانتكاسات والتجارب، والمغامرات التي لا تزال بالضرورة غير مُكتملة في اعتباري، حتّى عند وصولي إلى هذا اليوم. صوّرتُ أكثر من 40 ساعة من المادة الخام، بين عامي 2004 و2013، ناهيك عن البكرات والأشرطة التي صودرت مني مرّتين، عندما أوقفني ضبّاط الشرطة، بين عامي 2007 و2009. أكثر من 100 ساعة من الوثائق السمعية والبصرية أحتفظ بها. في صيف 2016، في "لقاءات بجّاية السينمائية"، توّجت لجنة تحكيم "إقامة كتابة الوثائقي" مشروعي "منجميون"، بمنحةٍ لإتمام المونتاج. كانت هذه بداية رحلة إنتاجه.
لم أحصل على أي مُساعدة أخرى لإنهاء هذا الفيلم الأول، الذي أُنتج ذاتياً بالكامل، بفضل دعم ومساعدة Numero Zero وLe Polygone Etoile، شركتَي إنتاج صغيرتين في مرسيليا؛ وتعاون صديقيّ، صانعي الأفلام، لوران تيفول وكارولين بوريه، اللذين قاما بتوليف الفيلم معي، وكنت أعوّل دائماً على دعمهما.
بين عامي 2016 و2020، كانت هناك نسخ عدّة من المونتاج. في نهاية كلّ مرحلة، كنا نبرمج جلسات مُشاهدة ناقدة للعمل قيد التقدّم، بوجهات نظر مختلفة. هذا جعل الفيلم يتطوّر تدريجياً إلى نسخته النهائية. قصّة مناجم "جرادة" لم تنته بعد، ولم يَقلْ عمّال مناجمها بعد كلماتهم الأخيرة. هذا الاستغلال مهدّد بالاختفاء، مع انتهاء تراخيص استخراج الفحم.
بعد إكمالي الجزء الأول بنجاح، لديّ ثقة ثابتة في زملائي في الفريق. كلّي أمل في أننا سنكون على الموعد لإنجاز الجزأين اللاحقين والمرتقبَين.
(*) كيف تُقيّم المشهد الوثائقي في السينما المغربية، وفي ضوء تجربتك، خاصة في ما يتعلّق بمنح تراخيص التصوير؟
ـ يتطوّر إنتاج الأفلام في المغرب، كما في أماكن أخرى، بسرعة، كمّاً ونوعاً. هذا عائدٌ إلى الأعداد المتزايدة من متخرّجي مدارس السينما، وأيضاً بفضل استخدام التكنولوجيا الرقمية، التي أصبحت في متناول الجميع، وساعدت بشكل كبير في فكّ القيود التقنية القديمة أمام التقاط الصُور والصوت. أصبح فنّ الفيديو وسيط تعبيرٍ كأيّ وسيط آخر. وثائقياً، يُخلَط غالباً بين إنتاج تقارير وثائقية والفيلم الوثائقي للمؤلّف. القنوات التلفزيونية تُشجِّع على إنتاج الأفلام الوثائقية للجمهور العريض، التي تؤطّرها، غالباً. برامج وقيود تنظيمية تحكمها سوق مؤسّسية، وجدول زمني، وموارد مالية كبيرة، ما لا يترك مساحة كبيرة للإبداع.
الفيلم الوثائقي للمؤلّف، الذي أنادي به، كان ويجب أنْ يبقى مساحةً للحرية، التي تسائل الرؤى ووجهات النظر، مهما كانت الوجهات، واختلافاتها. يشتغل مؤلّف الفيلم الوثائقي على المعنين الحقيقي والمجازي، ويتساءل باستمرار عن مكانته الخاصة في منظومة المواقف نفسها، التي يتناولها في فيلمه.
أعتقد أنّ مسألة تراخيص التصوير لا تُثار أصلاً في هذا السياق. يكفي الاتفاق الضمني بين المخرج وموضوعه. فالسؤال الأوّل والأساسي، الذي يجب طرحه، قبل معرفة من وماذا وكيف ومتى سأصوّر، مِحْوريٌّ: لماذا أصوّر.