في الوثائقيّ Gims: On The Record (نتفليكس، 2020)، للصحافي والمُخرج الفرنسي فلوران بودان، تغيب الاشتغالات الجماليّة، التي تُبرّر سيرة الرابور جيمس، أحد أكثر صنّاع فنّ الـ"راب" أهمية في العالم. بحكم أبعاده الحفرية، يغوص الوثائقيّ في أحوال الصناعة، تفكيكاً وأرشفة وتخييلاً، مقارنة بالروائي، الذي وإنْ يرُم التوثيق، يبقَ خاضعاً لنسق سينمائي مُحدّد، يستند إلى فعل التخييل.
هذا أمرٌ لا يفطن له بودان، لا توثيقاً ولا تخييلاً. الجري وراء يوميات جيمس، في تدريبه وسهراته وحياته الخاصّة مع زوجته وأولاده، لا يصنع وثائقياً حقيقياً، يطرح أسئلة عن الريبرتوار الغنائي، ويبحث عن حقائق وأحداث ووقائع، تصوغ أفق تجربته غنائياً. هذا يُفسّر قبول "نتفليكس" بإنتاج الفيلم، والتي لا تقوى على إنتاج أفلام سِيَر ذاتية قويّة، تسعى إلى حقائق تُقدّمها إلى المُشاهد، أو تجعل سيرة مُغنّ أو فنان أو سينمائي مُختبراً للصورة الوثائقية، حيث يرتفع منسوب التحليل والبحث والتقصّي إلى التخييل.
يرصد الفيلم، بصرياً، في 96 دقيقة، يوميات المغنّي أثناء تحضيره حفلةً، عام 2019. هذا ليس دافعاً إلى إنجاز وثائقيّ لـ"نتفليكس"، عن نجم "راب" صاعد، ما أثّر سلباً على خصوصية الصورة الوثائقية، بجعلها تبدو كأنّها تنقل تقارير يومية عادية، تتعلّق بالمُغنّي، وبعلاقته بفريق العمل.
هناك جانبٌ مهمّ لم يُركّز عليه بودان: عشق البطل وبراعته في فنّ الرسم. هذه الخصوصيات الذاتية يُريدها المُشاهد، لا ما يحدث في كواليس الحفلات، من اعترافٍ وتشجيعٍ وعناق، بل أشياء وقصصاً، يُدهشه وقعها ومعرفتها وعيشها في صورة متخيّلة، رغم أنّ غالبيّة ضيوف الفيلم أفرادٌ من عائلته، يتردّد في خطابهم بُعدٌ تمجيدي لشخصه، ولحرصه على التميّز والنجاح في عائلة فقيرة، عانت تفكّكاً وجدانياً وأسرياً في فرنسا وخارجها.
لم يصدّق غاندي جونا (Gims)، المولود عام 1986 في كينشاسا (عاصمة جمهورية الكونغو الديمقراطية)، أنّه سيغدو، في الـ20 عاماً الأخيرة، أكثر مغنِّي الـ"راب" مُشاهدة واستماعاً في فرنسا. هذه حقيقة لا يسهل قبولها، نظراً إلى القاع الذي منه خرج جيمس، قبل اكتسابه ثقافةً موسومة عبر تاريخها، وسبّاقة في العالم. يطرح الفيلم أذواقاً وأساليب وأمزجة وأغنياتٍ وأفلاماً ورقصاتٍ ذات صلة بما يحدث في الزمن المعاصر. فرغم مظاهر تسطيح، أصابتها في الآونة الأخيرة، لا تزال تلك الثقافة تُحافظ على بريقها الفني في ابتكار أساليب ومواضِعَ في فنون الغناء والأداء.
عرف فنّ الـ"راب" تبدّلات عدّة، منذ نزوحه من أميركا مع مهاجرين عديدين، إلى أنْ استقرّ في فرنسا، وأضحت له خصوصية محلية. للـ"راب" الفرنسي ميزات وخصائص، وإنْ بدت بعض أغانيه كأنّها بذخ فنيّ، نظراً إلى السياق التاريخي الذي ظهر فيه، مُقارنة ببعض بلدان القارة الافريقية، التي شهد معها الـ"راب" تحوّلات فنيّة وجماليّة، غيّرت المفهوم بشكل كامل، وبدّلت أنماط تلقّيه وأذواقه وأساليبه، وجعلته أقرب إلى ألوان غنائية أخرى.
فنانو الـ"راب" لا يشتهرون في بلدانهم الأصلية، إلا بعد هجراتهم إلى دولٍ غربية، كفرنسا وألمانيا وأميركا وبلجيكا، حيث الجسد أكثر حرية في التعبير عن قلقه وهواجسه، كجِيمْس، الذي أمضى فترة طويلة في أحياء باريس، بعد انفصال والديه، لكنّه استطاع مواجهة الواقع المزري، المنتمي إليه اجتماعياً، حتى أصبح ـ في الأعوام الأخيرة، أحد الفنانين الأجانب الذين خلخلوا واقع الغناء الفرنسي، بأساليبهم ولباسهم وأغانيهم ورؤاهم.
في سيرته، مسرّاتٌ كثيرة، تتّصل بمفهومه لأغاني الـ"راب"، بارتباطها الدائم بالجماهير المسحوقة، اجتماعياً لا سياسياً، مع رغبة تتبدّى في التجديد، تأليفاً أو في أشرطة الـ"فيديو كليب". لكنّ الأهمّ، إضافة إلى موهبة صوته، كامنٌ في اشتغال كبير في موسيقاه وأغانيه، المتحرّرة من النمط الفرنسي المعاصر، الذي اشتهر به فنّ الـ"راب" في العالم. للكلمة دورٌ في تشكيل وعي الأغنية وماهيتها، التي تروم غالباً الصراخ والنقد لصالح اشتغالات فنيّة وجماليّة. هذا حاصل في أغاني جِيمْس، فالمُستمع إليها يقف عند جماليّاتها، ومدى قدرتها على التأثير في الجسد، لا بوصفها خطاباً ينتقد أو يُماري جماعات ومواقف وأفكاراً، بل بما تُثيره من لذة وذوق في الأذن. النقد الفجّ والمُباشر، المُستند إلى تكرار القافية، لا ينتج فنّاً، ولا يصنع أغنية يستمتع بها الفرد. لكنّ تشابك النقد وأيديولوجيته بصناعة الأغنية وألحانها، ومستويات إيقاعها الموسيقيّ، يصنع فنّ "راب" حقيقياً.
ينقسم الوثائقي إلى مقاطع بصريّة، تُلحم أفقيه الجمالي والموضوعي، ولا تخرج عن العائلة والجماهير العاشقة لفنّه، ويوميات سهراته ولباسه، وبعض أفكاره الخاصّة عن الـ"راب" عموماً. الشخصيّ والغريب والمُدهش والمُستفز في سيرته غير موجودة. بذخ الحياة والأضواء حاضر، لكنّ الظُلمة المُعتمة (الذاتي)، الحاضرة في كلّ مُبدع، لم يُسلّط عليها بودان الضوء، إمّا لجهله (ربما) خصوصيات تجربته الغنائية وتحوّلاتها، المتراكمة من أغنية إلى أخرى، وإمّا انسجاماً مع مفهومه الخاصّ للوثائقيّ، وتقوقعه حول الفنان ونجاحه، عوض التشعّب أكثر في سيرته الذاتية، بعلاقتها بفنّ الـ"راب".
في مراكش المغربية بيتٌ للمغنّي، إذْ يحلو له العيش والاستقرار والتفسّح، بعيداً عن أضواء فرنسا، بعد الترحيب الذي قوبل به من الجهات الرسمية، وقدرته على نسج علاقات وصداقات مع سكّان المدينة. هناك، يمضي جِيمْس شهر رمضان، مُتخلّياً عن الإعلانات وأشرطة الـ"فيديو كليب" والاستديوهات. زوجته تُحبّ هذا الشهر، لأنّها "تلتقي" فيه بجِيمْس الأب لا المُغنّي. يُركّز بودان على هذه المَشاهد، لأنّها تكشف جانباً خفيّاً من حياته، وعلاقته بنمط عيشه ودينه وعائلته. لكنّ المخرج يعود سريعاً إلى صوره التنميطيّة عن النجم.
ارتباك الوثائقي وهشاشته وهزاله نابعةٌ من سوء فهم الوثائقيّ، وإمكاناته الفنية والجماليّة، بعيداً عن التخيّيلي في العمل الروائي. هناك انصياعٌ إلى شكلٍ ثابت لوثائقيات أيقونية مُبتذلة، ظهرت مؤخّراً، عن تايلر سويفت وميريام فارس. هذه وثائقيات تسعى جاهدة إلى الفنان الأيقونة لا إلى الفنان الإنسان، الذي منه تنبثق النجاحات والإخفاقات والأسئلة والأوجاع والمعاناة. هذه الأشياء العادية تصنع فيلماً وثائقياً، وتحثّ كاتبَ سيرة ذاتية عن فنان أو سياسي على البحث عن "كبد الحقيقة"، كما قال "الكاتب الشبح" (2010) لرومان بولانسكي، وهو يُنقّب في سيرة رئيس وزراء بريطانيا آدم لانغ، لكتابتها.