هنري كيسنجر سينمائياً: أقوى وأدهى من كلّ تمثيل

04 ديسمبر 2023
هنري كيسنجر: أي ممثّل قادر على استيعاب شخصية كهذه؟ (Getty)
+ الخط -

 

بعد 9 أشهرٍ على أول عرض دولي له، في الدورة الـ73 (16 ـ 26 فبراير/شباط 2023) لـ"مهرجان برلين السينمائي"، يُتوفّى الأميركي الألماني هنري كيسنجر (27 مايو/أيار 1923 ـ 29 نوفمبر/تشرين الثاني 2023). الفيلم المذكور، "غولدا" (2023) للإسرائيلي غوي ناتيف (مُقيم في الولايات المتحدّة الأميركية)، يُشارك حينها في برنامج "بانوراما". كيسنجر يظهر فيه عبر ليف شرايبر، الذي يؤدّي الدور/الشخصية، وإنْ في لحظاتٍ قليلة، ببراعةِ محترفٍ، يُبهر غالباً في تأدية أدوار/شخصيات، إلى حدّ أنّ بعض تلك الشخصيات، غير الحقيقية مثلاً، تُصبح معه حقيقية.

كيسنجر يظهر عبر شرايبر كأنّه هو نفسه، وزيراً لخارجية الولايات المتحدّة، زمن "حرب أكتوبر" (1973): داهية سياسية، لكنّه مُتعبٌ من سفرٍ، وتلك الحرب مؤذية للغرب، ولأميركا، وصدمة الإسرائيلي، ممثّلاً برئيسة وزراء إسرائيل حينها، غولدا مائير (هلن ميرن)، وقادة سياسيين وأمنيين وعسكريين، ضاغطةٌ بثقلٍ غير مُحتَمل، وعمل كيسنجر سيكون فاعلاً في ترجيح كفّة الحرب لصالح إسرائيل.

المفاجئ في "غولدا" أنْ لا تساوٍ، سينمائي ودرامي وجمالي، بين فيلمٍ باهتٍ وركيك ومتسرّع، يكاد يكون مُفرَّغاً من حيوية بصرية وسياسية واستخباراتية وإنسانية، وحضور ممثلين وممثلات، لهم سِيَر مهنية جميلة، وبعضَ أدوار لهم/لهنّ باهرٌ. رحيل كيسنجر، بعد بلوغه مائة عام و6 أشهر ويومين، دافعٌ إلى استعادة "غولدا"، آخر إنتاجٍ سينمائي يكون للراحل حضورٌ فيه، إذْ له سابقاً حضور في أكثر من فيلمٍ روائي طويل، عبر ممثلين مختلفي الأساليب المهنية، والسينما، الأميركية وغيرها، مُنتبهةٌ إليه، وثائقياً أيضاً، فهو سياسيّ محنّك، وصانع أحداثٍ، ومؤثّر في المشهد الدولي، في اشتغاله متنوّع الوظائف، وأبرزها وزيراً للخارجية في عهدي ريتشارد نيكسون (1969 ـ 1974) وجيرالد فورد (1974 ـ 1977).

مع نيكسون، يحضر أيضاً على الشاشة الكبيرة، في "نيكسون" (1995) لأوليفر ستون، بفضل بول سورفينو، إلى جانب أنتوني هوبكنز، الرائع في تأدية الرئيس الأميركي، بأسلوب سينمائي يتفرّد ستون به، إذْ يُمعن تفكيكاً في تلك الشخصية، فيُدهش هوبكنز في تقديمها. أمّا من يؤدّي دور كيسنجر في "نائب (Vice)"، لآدم ماكاي (2018)، فهو كيرك بوفيل، الأقلّ جذباً من ممثلين آخرين للشخصية السياسية نفسها، ومن ممثلين وممثلات في هذا الفيلم، خاصةً كريستيان بايل في دور السياسي دِك تشايني. فبايل طاغٍ بأدائه شخصية تمتلك دهاء وخبثاً، من دون أنْ تبلغ دهاء كيسنجر وخبثه. كما أنّ ظهور كيسنجر/بوفيل قليلٌ، قياساً بشخصيات أخرى مرتبطة أكثر بتشايني.

 

 

هذه نماذج سينمائية عن شخصية ستبقى أقوى وأدهى من أي تمثيل لها. لائحة الأفلام التي له فيها حضورٌ، عبر ممثلين، تضمّ 9 أفلام ("ويكيبيديا" الفرنسية)، أبرزها وأهمّها مذكورة هنا. بالإضافة إلى 4 وثائقيات و3 أعمال تلفزيونية. بعض الوثائقيات يستفيد من إتاحة الفرصة أمام مهتمّين ومهتمّات للاطّلاع على وثائق ومستندات يُفترض بها أنْ تكون سرّية، خاصة بوزارة الخارجية و"بنتاغون" و"وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية" و"هيئة الطاقة الذرية"، إلى أوراق شخصية لرؤساء وشخصيات مهمّة، كما في تعريفٍ رسمي بـ"الصديق الأميركي، أميركا ضد دوغول" (فرنسا، 2001) لباتريك جودي، الذي يكتبه مع فانسان جوفار، الصحافي في "لو نوفيل أوبسرفاتور" (مجلة أسبوعية فرنسية)، الحاصل عليها أساساً.

مستندات كهذه تتناول "النضال الشرس" للإدارة الأميركية ضد الرئيس الفرنسي شارل دوغول، ما يستدعي من المُطّلعين عليها "مقارنتها" بما تحتفظ به وزارة الخارجية والمكتب الثاني والجيش في فرنسا، "خاصة بالتجارب النووية الفرنسية". وثائقياً أيضاً، هناك "محاكمات هنري كيسنجر" (2002) للأميركي يوجين جيراكي، المستوحى من كتاب "جرائم هنري كيسنجر" (2001) للأميركي البريطاني كريستوفر هيتشنس: معاينة سينمائية لاتهامات بجرائم حرب، موجّهة إلى كيسنجر، "العامل في إدارتي نيكسون وفورد، في فترة حرب فيتنام".

يبدو أنّ هناك صعوبةً في التمكّن من تمثيل هنري كيسنجر. حضوره في المشهد العام، في تفاصيله وخفاياه ومتاهاته، كما في صُنع مشهدٍ أو أكثر في العالم، أقوى من أنْ يستوعبه فيلمٌ سينمائي خاص به، بكلّ ما تُتقنه السينما من براعة اختراع. جمال أداء سورفينو غير نافعٍ في إظهار كيسنجر الحقيقي سينمائياً، خاصةً (وهذا لا علاقة له بالأداء) أنّ ستون يبحث في شخصية رئيس، نفسياً واجتماعياً وعقلياً. تماماً كما في "نائب" و"غولدا"، فالاهتمام منصبٌّ على شخصية أخرى، تكون محور النصّ السينمائيّ.

المساهمون