هند بكر شابة مصرية اختارت صناعة الأفلام، رغم ظروف غير مواتية. من عائلة نوبية، وإنْ تكن مُقيمة في الإسكندرية. درست اللغة العربية، وتخرّجت من جامعة الأزهر. تزوّجت باكراً، وأنجبت. مع ذلك، اختارت دراسة السينما في "جيزويت" الإسكندرية. بعدها، شاركت في ورشٍ في مهرجانات دولية، كـ"إدفا" في أمستردام. عام 2013، شاركت في تأليف "أوضة الفيران" وفي إخراجه مع خمسة آخرين.
مشروعها الوثائقي "ناس الكباين" اختير مع 12 مشروعاً "قيد التطوير"، في النسخة الأولى لـ"ورش تطوان"، في الدورة الـ28 (3 ـ 10 مارس/آذار 2023) لـ"مهرجان تطوان لسينما البحر الأبيض المتوسط"، فنالت منحة الالتحاق بورشة تطوير للكتابة في "لاب تورينو إيطاليا".
درستِ في "الأزهر"، ثم اتجهت إلى السينما. كيف حصل هذا؟
منذ صغري، كنت أحبّ الفن والكتابة. كتبت قصصاً قصيرة، نُشر بعضها في مجلة "أمكنة"، مع علاء خالد. المجلة مهتمة بثقافة المكان. شاركت بمواضيع في ثلاثة أعداد، بينها موضوع عن الجامعة. كنا نتحدّث عن تجربتنا في الأزهر. يمكن اعتبار هذا ميتافيزيقياً. في "حيوات بديلة"، طرحت موضوع "ناس الكباين"، الفيلم الذي أعمل عليه حالياً.
أين يعيش "ناس الكباين"؟ في النوبة؟
إنّهم نوبيون، جاؤوا إلى الإسكندرية، واشتغلوا في القصر. عملوا في خدمة الملكين فؤاد وفاروق. عندما نشأت الجمهورية، أكملوا حياتهم. هناك مَنْ أصبح مرشداً سياحياً، وآخرون عملوا في مهن أخرى.
من أين جاء عنوان "الكباين"؟
لأنهم عاشوا في "قصر المنتزه" في عهد الملك فؤاد. عندما جاء الملك فاروق، أخرجهم من القصر، وبنى لهم الكبائن، ثم أصبحت هناك قرية صغيرة، جميع المقيمين فيها نوبيون أو سودانيون، يتحدّثون النوبية، وينتمون إلى تقاليد النوبة. مجتمع منغلق على نفسه، نشأت فيه.
أكانت الحياة في الكبائن قاسية؟
كانت مغلقة. المحيط كله من ناس الكبائن، لكنّهم طوّعوها لصالحهم. حتى جغرافيا المكان، جعلوها في خدمتهم. عندما تكون هناك مناسبة مفرحة في النوبة، كنا نخرج إلى النيل. لكنْ، في الإسكندرية كنا نخرج إلى البحر. يتزوّجون من بعضهم بعضاً دائماً. أصبحت هناك حالة نفسية بيني وبين المجتمع الذي أعيش فيه. حتى فكرة الخروج إلى الإسكندرية وقت العمل، ومحاولة الاندماج مع المجتمع، كانت خروجاً معنوياً تماماً.
ماذا عن الدراسة في الأزهر: أهذا قرار أسري، أم اختيار؟
إنّه قرار أسري تماماً، يعود إلى التقاليد. التحقت بالأزهر وأنا صغيرة، بعمر خمسة أو ستة أعوام، حتى الجامعة. كانت الدراسة دينية. حفظت القرآن كلّه.
ثم قرّرتِ دراسة السينما، ولو بشكل مستقل بعد الانتهاء من دراستك الجامعية. أكان القرار صادماً للأهل؟ كيف استقبلوه؟
لم تكن هناك مشكلة مع الأسرة. المشكلة كانت معي. لأنّي حينها كنت أمّاً لطفل، إذْ تزوّجت باكراً، وكنت لا أزال أدرس في الأزهر. كان طفلي يرضع وأنا أدرس السينما. لكنْ، لأنّي كنتُ أدرس السينما، لم يتحمّل أحدٌ مسؤوليته.
بمعنى آخر، لو اخترتِ دراسة شيء آخر غير السينما، أكان يُمكن أنْ يُساعدك أحدٌ؟
طبعاً. المشكلة أنّي تحمّلت مسؤوليات فوق طاقتي. دراسة ومشاريع وأسرة. كنت أتعامل مع كلّ هذه الأشياء.
وزوجك، ماذا كان موقفه من كلّ هذا؟
إنه محامٍ، من العائلة. لم يكن موقفه كموقف الأسرة. كان يدعمني. لكنّه كان يعاني ضغط العائلة أيضاً. مع هذا، كان يتحمّل. لولا دعمه، لما استطعت إكمال مشواري هذا.
متى شعرت بأنّك تريدين أنْ تكوني مخرجة؟
عندما بلغت 15 عاماً. بدأت في "النادي النوبي العام" في الإسكندرية. أول مرة حضرت ندوة، وكانت مهمة، وحضرها تشكيليّون وموسيقيون وغيرهم. بدأت أكتب وأسمع موسيقى مختلفة. شاهدت أفلام يوسف شاهين، فأصبح هناك حيّز للخيال. بدأت أقرأ كثيراً. هذا كلّه جعلني أقرّر إنهاء دراستي في الأزهر، لأنّ هناك طموحاً آخر. أتذكّر أنّ المخرجة عطيات الأبنودي كانت تعمل حينها على "قطار النوبة"، وكانت تأتي إلى النادي النوبي، فأستمع إليها. تمنّيت أنْ أكون مثلها. في النوبة، لدينا حكايات كثيرة. جدّتي كانت تحكي حكايات تجعل الخيال يشتعل. كلّ الوقت كنت أرغب في جعل تلك الحكايات أفلاماً. ثم وجدت أنّ بعض الأفكار الوثائقية تُلحّ عليّ، فبدأت أعمل عليها.
قرّرت دراسة السينما، لكن كان عليك إكمال دراستك في الأزهر. هل شعرت بتصالح مع نفسك، أم كان هناك صراع ما؟
بطبيعتي لا أستطيع أنْ أواجه الأهل والعادات والتقاليد، فهذا كلّه جزءٌ من تكويني. هناك صراع فيّ كي أخرج منها، وهذا أكبر من صراعي مع الخارج.
سؤالي عن الصراع فيك. فالدراسة في الأزهر تتعارض وتتناقض بعض الشيء مع السينما. ألم تشعري بهذا التناقض؟
ـبشكل ما، كنتُ منفصلة عن الدراسة. كنتُ أدرس، لكنّ هذا لم يشغل حيزاً كبيراً من تفكيري. كنتُ أقرأ الكتب الدراسية لأنجح، ونلت تقديراً أتاح لي إكمال الماجستير والدكتوراه.
هل كنت مقتنعة بالأفكار، أم كنت تدرسين فقط للامتحان؟
لم أكن مقتنعة. في الامتحان، لم أناقش هذه الأفكار، بل أدّيتها كواجب. في الوقت نفسه، أنا ممتنّة جداً لدراستي في الأزهر، لأنّه لولاها لما تعمّقت في الدين، ولما تعلّمت اللغة العربية، وهذان مفيدان في عملي. هذه الدراسة أخذت منّي وقتاً وجهداً، كان يُمكنني استغلالهما في تنمية الجوانب السينمائية أكثر.
ماذا عن فكرة "جولة ميم المملة"، عن محمد حافظ رجب؟
محمد حافظ رجب كاتب مولود في الإسكندرية، وينتمي إلى جيل الستينيات. له كتب مهمة، قصص وروايات. لكنّه اعتزل الكتابة باكراً. هناك كثيرون لا يعرفونه، مع أنّه كان مشهوراً في تلك الفترة. في لحظة ما، كان يُعادل نجيب محفوظ، فهو جَدَّد في شكل الكتابة القصصية. عند صدور أعماله الكاملة قبل وقتٍ، نفدت سريعاً.
كيف تعرّفت إليه؟
في "النادي النوبي"، نُظّمت ندوة بمناسبة تقاعده. لم أكن أعرفه. انتظرت وصوله، لكنّه لم يحضر، فبدأ الجميع يتحدّثون عنه بشكل أثار فضولي. كان كلامٌ غريب ومتناقض. أحدهم يدافع عنه، والآخر يُهاجمه. الندوة طويلة، شارك فيها أناس باتوا أدباء معروفين.
في عام 2011، كنت أدرس السينما، وأعمل منسّقة أنشطة ثقافية، فقرّرت تنظيم ندوة عنه؛ إذْ قلت لنفسي إنّ هذا الرجل يجب أنْ أراه، وأتعرّف إليه. لكنّه اعتذر. كان في فترة عزلة، ويرفض الخروج من منزله، فألححتُ عليه كثيراً، إلى أنْ وافق وحضر الندوة، التي نُظِّمت بمناسبة صدور أعماله الكاملة، لكنّه ظلّ صامتاً، ولم يتكلّم أبداً. بعد إلحاح الحضور، قال: "ما مضى، مضى. والمأساة تتكرّر تتكرّر تتكرّر".
منذ تلك اللحظة، تابعته، وزرته. في كتابته شيءٌ ثوري، والواقعية حينها مهيمنة. له مثلاً "غرباء" و"مخلوقات براد الشاي المغلي" وغيرهما. كتابة مغايرة وسوريالية، تميّزت بالتجديد في السرد، وأثارت ضجة في مصر.
ربما كان يقصد بـ"المأساة تتكرّر" تلك الشللية التي تقضي على الموهبة.
كان يبيع "بزراً سودانياً" في رصيف محطة الرمل. كان موهوباً. لم يُكمل دراسته الابتدائية. بدأ يكتب، فكانت هذه لحظة صعوده وشهرته. حينها، كُتِب عنه: "البائع الذي أصبح كاتباً". حينها، كان جمال عبد الناصر يحتفل بالعمّال، فأصبح محمد حافظ رجب نجماً، واحتفى به يوسف السباعي، وانتقل إلى القاهرة للعمل، لكنّه وجد نفسه في صراعاتٍ لم يقدر على مواجهتها. كان بسيطاً وقادماً من مكان بسيط. كان يكتب، وموهوب جداً. لكنّه لم يقدر على مواجهة صراعات القاهرة، فانهزم، وعاد إلى الإسكندرية، واعتكف. عاش في عزلة لـ40 عاماً. كان يكتب في فترات، لكنّ كتاباته حينها لا تُشبه كتاباته الأولى أبداً، لأنّهم كسروه. فيلمي عنه يتناول زمن عزلته.
أعتقد أن مشكلته تكمن في استسلامه، فسمح لهم بكسره.
تابعته لـ4 أو 5 أعوام، زرته فيها مراراً. كنتُ أريد أنْ أعرف ماذا كان يفعل في 40 عاماً.
40 عاماً. هذا زمن طويل.
كانت صحّته جيدة. لكنه كان يجلس دائماً بين أربعة جدران، وهذا مُحيّر لي. كانت ابنته تعيش معه، فاعتمد عليها. كانت تفعل كلّ شيءٍ لأجله. ثمّ توفّيت بعد وفاة ابنها/حفيده، حزناً عليه. بعد شهر على رحيلها، توفّي هو حزناً عليهما.
كان يرفض الخروج من البيت. كيف نجحت في تحقيق فيلمٍ عنه وهو في بيته دائماً؟
كنت أصوّر العالم الخارجي، وأحضره إليه في منزله. محطة الرمل، والأماكن القديمة. يشاهد هذا، فتنفتح فيه "مناطق" الكلام. صنعتُ مشاهد تجريبية في المنزل. لم يقتنع، إلى حدّ ما، بما أفعله، لكنّه تركني أفعل ما أريد. أحبّ لعبة التصوير، وتعلّق بها، فبات ينتظرني.
طبعاً لا بُدّ أنْ ينتظرك، لأنك وفريق العمل أصبحتم العالم بالنسبة إليه. أعتقد أنّكم بهذه الألعاب والتصوير أعدتم رغبته في الحياة.
فعلاً؟
لأنّكم أحضرتم له العالم الخارجي الواسع، وأعدتم الحياة إليه. لذا، عند انتهائكم من الفيلم، اختفى هذه العالم. ثم رحل الحفيد، وبعده الابنة/الأم. لم يعد هناك عالم له. أصبح وحيداً تماماً، بل معزولاً ومحاصراً مجدّداً.
(بعد صمت): احتمال. حتى لو كان في الفيلم أشياء غير جيدة فنياً، وثّق سيرته، وسيرة المكان الذي كان يعيش فيه.
وماذا عن "ناس الكباين"، أو "في ظلّ القصر"؟
لا توجد حالياً رؤية محدّدة. لم أحدّد شكل السرد بعد. لكنّه سيكون من وجهة نظري، يعني تجربة ذاتية. ناس "الكباين" ناسي. ستكون الموسيقى أساسية، لأنها الحقيقة، وليست مجرّد إيقاع، لأنّها تحمل تراثاً ثقافياً، وعاداتنا الاجتماعية، والمناسبات في حياتنا. في الحياة العادية، نحن نغنّي في مناسباتنا الاجتماعية، وغالبية الأغاني غير موثّقة. هنا يكمن دوري في الفيلم.
لجنة تحكيم "ورشة تطوان" سألتني عن شكل السرد. كنت واضحة: الآن، التصوير يهمّني، لأنّي أعرف أنّ هذه المنطقة (الكبائن) باتت مخصّصة لمشروع استثماري، وستُزال.