ليس جديداً انحياز الإعلام الغربي الواضح لإسرائيل على حساب الفلسطينيين، إذ يستميت في الدفاع عن الاحتلال الإسرائيلي وتصوير جرائمه على أنها مجرد "دفاع عن النفس" أمام "إرهابيين". لا مكان لأصوات الفلسطينيين وشهاداتهم، وإن وُجد، فهو في الترتيب الأدنى، وكأنه محاولة للحفاظ على بعض من ماء وجه هذه المؤسسات التي تدّعي الموضوعية. لكن هل تغيّر أي شيء في ضوء عملية طوفان الأقصى والعدوان الإسرائيلي المتواصل على غزة؟
تنقل النسخة الإنكليزية من "العربي الجديد" عن محللين إعلاميين، مدعومين بالبيانات والأدلة، اتفاقهم على أن هناك تحيزاً، حتى في المؤسسات العريقة مثل هيئة الإذاعة البريطانية (بي بي سي)، على الرغم من التحسينات الأخيرة وزيادة المساحة الممنوحة للأصوات التي تعكس وجهة النظر الفلسطينية.
قبل أسبوع استضافت القناة البريطانية الرابعة السفير الفلسطيني لدى المملكة المتحدة، حسام زملط، مباشرةً بعد أن أجرت مقابلة مع سياسية إسرائيلية من حزب الليكود. كان السؤال الأول الذي طرحته المذيعة كاثي نيومان على زملط هو ما إذا كان يدين أعمال حركة حماس. ورفض السفير الإجابة عن السؤال، موضحاً أن هذا "هوس دائم بإلقاء اللوم على الضحية، المحتَل، المستعمَر، المحاصَر". وقال: "لم تطلبي منها (سياسية الليكود) في سؤالك الأول أن تدين قتل عائلة بأكملها (في غزة) الذي ذكره مراسلكم للتو".
السؤال الذي طرحته نيومان هو السؤال الذي يُطرح غالباً على الفلسطينيين في وسائل الإعلام الغربية. فبينما كان يقُتل مئات الفلسطينيين في الغارات الجوية الإسرائيلية، ركزت وسائل الإعلام الغربية على صواريخ "حماس"، حتى عندما لم تقتل أحداً. ويُطلب من الفلسطينيين، حتى أولئك الذين لا ينتمون إلى "حماس"، إدانة "الجرائم" المزعومة التي يرتكبها فلسطينيون آخرون، في حين لا يُطلب من السياسي الذي هو عضو في الحزب الحاكم في إسرائيل إدانة الجرائم التي ترتكبها إسرائيل.
الإعلام الغربي يغفل السياق
الاتهام الآخر الموجه إلى وسائل الإعلام الغربية في تغطيتها للقضية الفلسطينية هو أنها تغفل السياق الهام لفهم الصراع. بالنسبة لوسائل إعلام غربية عدة، ضربة من "حماس" هي استفزاز، فيظهر الهجوم كأنه غير مبرر وخرج من العدم. ويقول المنتقدون إن هذا يصبح محور الاهتمام الوحيد لوسائل الإعلام، إذ يصورون "حماس" بعبارات بسيطة باعتبارها الخصم الوحيد، مع إزالة كل السياق السياسي الأوسع والمباشر.
وكما أشار المحللون، هناك عدد لا يحصى من العوامل التي حدثت قبل أن تبدأ وسائل الإعلام بتغطية اللحظة التي بدأ فيها العدوان الأخير. وبمجرد حلحلة الوضع، كما حدث في الماضي عندما توقفت إسرائيل عن قصف غزة، يتوقف الاستنفار مرة أخرى من قبل وسائل الإعلام وينتقل التركيز إلى مكان آخر. كل هذا يخلق تسلسلاً زمنياً للأحداث يبدأ بالاستفزاز الفلسطيني وينتهي بالانتقام الإسرائيلي.
في مقابلة القناة الرابعة مع زملط، قدّمت المذيعة صورة مشوهة للوضع. فلم تتطرق إلى كون إسرائيل قوة إقليمية عظمى مسلحة نووياً ومدعومة من الولايات المتحدة، وتحتل وتحاصر وترتكب جرائم يومية موثّقة ضد الفلسطينيين في الضفة الغربية وغزة.
وكشف زملط عن الرواية غير المسيسة عندما واصلت المذيعة الضغط عليه للتنديد والتركيز على "حماس" بسبب احتجازها لرهائن. إذ قال: "هل تعلمين يا كاثي أن إسرائيل احتجزت مليوني شخص (في إشارة إلى الحصار المفروض على غزة) كرهائن لمدة 16 عاماً، ومع ذلك لا يوجد احتجاج، ومن المفارقات أن الرهائن يحتجزون الرهائن.
وفي ما يخص اللغة، هناك حديث دائماً عن "حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها" في مواجهة "الإرهاب" الفلسطيني في أعقاب طوفان الأقصى، نشرت صحيفة ذا غارديان مقالة افتتاحية أشارت فيها إلى "الهيجان القاتل الذي نفذته حماس". وبالمثل، أشارت "ذي إيكونوميست" إلى "الهجوم المتعطش للدماء الذي نفّذته حماس". هذا النوع من العبارات لن يُستَخدم أبداً من قبل وسائل الإعلام الغربية لوصف الجرائم الإسرائيلية ذات الحجم المماثل أو حتى الأسوأ. ولن تصف هذه المنابر أبداً قتل إسرائيل لآلاف المدنيين في غزة بأنه "هيجان إسرائيلي قاتل" أو "هجوم إسرائيلي متعطش للدماء". وعندما تقصف إسرائيل المنازل والمستشفيات والمدارس في غزة، فإن لها "الحق في الدفاع عن نفسها"، ولكن مقاومة يقوم بها الفلسطينيون تعتبر "إرهاباً".
وتُستخدم كلمة "إرهابي" حصرياً من قبل وسائل الإعلام والسياسيين للإشارة إلى "حماس" بتهمة استهدافها للمدنيين المزعومة، لكنها لن تنطبق أبداً على إسرائيل عندما يتبين أنها استهدفت المدنيين عمداً في غزة، أو عندما تعاقب الفلسطينيين بشكل جماعي، كما فعلت على مدى الأعوام الستة عشر الماضية في غزة من خلال حصارها الخانق.
ويقول المنتقدون إن هذه أعمال إرهاب دولة ويجب وصفها على هذا النحو، والعديد منها جرائم حرب واضحة حتى في وصف الأمم المتحدة.
ما سبب تحيز الإعلام الغربي لإسرائيل؟
تنقل "العربي الجديد" عن محللين أن السبب وراء هذا التحيز يكمن على وجه التحديد في علاقات القوة غير المتوازنة إلى حد كبير بين الفلسطينيين وإسرائيل. إسرائيل دولة معترف بها دولياً تتمتع بعلاقات تجارية وعسكرية ودبلوماسية قوية مع الغرب، في حين تعتبر في كثير من الأحيان ديمقراطية غربية وسط الأنظمة الاستبدادية "الشرقية" في العالم العربي الإسلامي، على الرغم من كونها قوة احتلال وتحاصر الملايين من السكان في ما وصفته جماعات حقوق الإنسان غير الحزبية والأمم المتحدة وحتى النقاد الإسرائيليون بأنه "فصل عنصري".
وفي كثير من الأحيان، لا يتمتع الفلسطينيون حتى بالحقوق الأساسية، ناهيك عن الحقوق الفردية المتقدمة المرتبطة بالديمقراطية الليبرالية الغربية. ومن ناحية أخرى، ليس للفلسطينيين دولة ويجب أن يعملوا تحت حدود الاحتلال الإسرائيلي. يمكن لإسرائيل أن تقدم دعاية حكومية متطورة وإحاطات مؤثرة سياسياً، وبالتالي يمكنها التحكم بشكل أفضل في الخطاب وصياغته، في حين أن الفلسطينيين غارقون في ظروف الاضطهاد بين فقر وانقسامات. ولهذه الأسباب، فإن التحيزات المؤيدة لإسرائيل في وسائل الإعلام الغربية تعتبر انعكاساً للارتباط السياسي الأوسع بين إسرائيل والحكومات الغربية، وبالتالي فهي مترسّخة.
ويقول المنتقدون إن التحيزات تساعد إسرائيل، عن قصد أو عن غير قصد، في الإفلات من جرائمها التي لا يُعترَف بها كجرائم.
مساحة أكبر لفلسطين... ولكن
منذ "طوفان الأقصى" بدا أن بعض الأصوات الفلسطينية ممثلة في وسائل الإعلام الغربية. ولوحظ أن السياق الفلسطيني ينال هذه المرة مساحة أكبر، وهو ما يعتبر حاسماً لفصل الدعاية الإسرائيلية عما تقوله وسائل الإعلام في كثير من الأحيان على أنه حقيقة.
صحيفة نيويورك تايمز مثلاً، المعروفة بموقفها الصريح المؤيد لإسرائيل، نشرت صور وأسماء 67 طفلاً فلسطينياً قتلتهم إسرائيل خلال عدوانها على غزة عام 2021. وخلال الأيام الأخيرة، سُمح للأمين العام للمبادرة الوطنية الفلسطينية، مصطفى البرغوثي، بالظهور على شاشة "سي أن أن" لطرح وجهة نظر الفلسطينيين، وشرح السياق السياسي لأعمال العنف الأخيرة من دون مقاطعته. ومع ذلك، يبقى التحيز المؤيد لإسرائيل منهجياً وسمة راسخة في وسائل الإعلام الغربية الرئيسية، وليس زلة.
اعتذارات
سارع الإعلام الغربي، في سياق دعمه للاحتلال الإسرائيلي، إلى نشر أخبار كاذبة والترويج لها على نطاق واسع، لتبرير العدوان المتواصل على غزة، وبينها ما نشره عن قطع رؤوس أطفال إسرائيليين.
واعتذرت مقدمة شبكة سي أن أن الأميركية ساره سيدنر التي نقلت على الهواء مباشرة أن مكتب رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو يمكنه تأكيد قطع رؤوس الأطفال، وقالت إنها تعرضت للتضليل. وكتبت سيدنر اعتذارها على منصة إكس (تويتر سابقاً) عقب بيان للحكومة الإسرائيلية بأنها لا تستطيع تأكيد الحادث. وذكرت في الاعتذار أن "مكتب رئيس الوزراء الإسرائيلي قال إنه تأكد من قيام حماس بقطع رؤوس الأطفال والرضع بينما كنا على الهواء مباشرة. الحكومة الإسرائيلية تقول الآن إنها لا تستطيع تأكيد قطع رؤوس الأطفال. كنت بحاجة إلى أن أكون أكثر حذراً في كلماتي، وأنا أعتذر".
إضافة إلى اعتذار سيدنر الشخصي، أصدرت شبكة سي أن أن أيضاً بياناً، أفادت فيه بأن إسرائيل لم تتمكن من تأكيد هذه المزاعم، "وهو ما يتعارض مع بيان سابق".
كان هذا الادعاء انتشر في الإعلام الغربي بعدما زعمت قناة i24 نيوز الإسرائيلية بنسختيها الإنكليزية ثم الفرنسية أنّ مقاتلي حركة حماس قتلوا 40 رضيعاً إسرائيليّاً وقطعوا رؤوس أغلبهم في مستوطنة كفار عزّة، الواقع على الحدود مع قطاع غزة، في الهجوم الذي شنه مقاومو كتائب القسام.
وفي سياق مشابه، اعتذرت "بي بي سي" عن وصفها التظاهرات الداعمة للفلسطينيين في العالم بأنها لمؤيدين لحركة حماس، ووصفت هذا التوصيف بأنه مضلل وسيئ الصياغة. قُرئ الاعتذار على الهواء أيضاً.