في مسيرة لافتة، شق الفنان المصري أحمد منيب طريقاً للأغنية النوبية، ناقلاً إياها من الهامش إلى المركز. امتلك صاحب "كان وكان"، إيماناً لا يلين بلحنه. وخلال أكثر من عقدين، حمل معه تاريخاً من الإهمال الثقافي والاجتماعي بصوت أغنية تمحو العُزلة وتُعلن الاندماج. اتخذت رحلته جريان النيل شمالاً، متدفقاً من منابع الجنوب السمراء، ليصب في البحر الأبيض المتوسط. هناك، امتزجت روح مصر الأفريقية الأصيلة، بموسيقى حوض الأبيض المتوسط. كان منيب أحد الذين أعادوا إلى عقد السبعينيات صوابه، بعد سنوات من التخبط في عباءة قديمة يشوهها الأورغ.
ازدهرت الموسيقى البديلة خلال السبعينيات حول العالم، وبدأت صناعة الموسيقى في مصر تبحث عن أشكال مواكِبة. وفي لحظة، وجدت الأغنية ضالتها في منيب، الذي قدم موسيقى بديلة بصيغة مصرية خالصة، في نسيج من موروثه النوبي بعناصر مصرية متنوعة.
فبعد سنوات طويلة، اقتصر فيها غناؤه على الأوساط النوبية، وتحديداً في حفلات الأعراس، اعترفت به صناعة الموسيقى المصرية كملحن في أول البومات ابن النوبة الآخر، محمد منير ("علموني عينيك"، 1977). لم يحقق حضور منيب الأول نجاحاً بصوت منير، لكن الأخير كان الحامل الأبرز لألحانه في خارطة الغناء المصري والعربي. وفي ألبوم منير "شبابيك" (1981)، افتتح الثمانينيات بملامح غنائية جديدة، صاغها يحيى خليل بأفكار مستلهمة من موسيقى الجاز.
تعرض منيب لإهمال جيله، بينما كان جيلان في انتظاره، حيث تقاطعت أحلامهم لتشكيل ملامح التيار الجديد في صناعة الموسيقى المصرية. منذ اللحظة الأولى، أدرك منيب ما عليه فعله لإخراج الأغنية النوبية من عزلتها، وتقديمها في قالب يستسيغه الجمهور المصري العريض. استغنى عن آلة الطنبور التقليدية، وكان أول نوبي يعزف على العود أثناء غنائه. غير أن ذلك التواصل مع العناصر الموسيقية المصرية الأخرى، لم يكن يعني تقليد نوع محدد.
في مرحلة ساد فيها صوت أم كلثوم وعبد الحليم، ألزم نفسه بعدم الاستماع لأي منهما، كما أسر بذلك لنجله، حتى لا يؤثرا على ألحانه
وفي مرحلة ساد فيها صوت أم كلثوم وعبد الحليم حافظ، ألزم نفسه بعدم الاستماع لأي منهما، كما أسر بذلك لنجله، حتى لا يؤثرا على ألحانه. أراد منيب حماية هويته اللحنية من ثقافة موسيقية مهيمنة. بصورة ما، أدرك أن ما ينتظره هو مجال لحني غير مطروق. على خلاف ذلك، راهن على الثقافات اللحنية المصرية الهامشية. ما فعله أنه منح القاهرة فرصة للتصالح مع ثقافة ظلت مُهملة، وفي الوقت نفسه أوصل صوتاً لجماعته في حب مصر. بمعنى أن هناك وجهاً آخر تمثله تلك الألحان السمراء الممزوجة بروح أفريقية، وسلالمها الخماسية. ماذا فعل منيب إذن؟ أعاد ملمحاً آخر من غناء المُهملين، كما لو كان فصلاً جديداً يحاور قصة موسيقى الجاز بسمرة مصر.
فالصوت الهامشي الذي ردّ له منيب الاعتبار، كان يعني أيضاً دعوة للاندماج والحضور، وكان محمد منير الصوت الذي أوصل عبره ألحانه. كذلك، أصبح أحد الأصوات التي تفاعل معها جيلا الثمانينيات والتسعينيات. يمكن ملاحظة مغازي منيب، في تعبيره عن تلك الثقافة المُهملة. فاستحضر اللون النوبي في قلب الأغنية الوطنية، كما لو أنه يؤكد استقلاليته وخصوصيته، وليس مجرد حالة مُستبعدة أو مُلحقة بالمركز. ففي أغنية "عروسة النيل"، التي تتغنى بمصر، وتضمنها ألبوم منير الثاني، "بنتولد"، دشن نشيد النوبة المُتفجر بحب مصر. وربما كانت إشارة إلى عرائس ذابت في النسيان وغمرها طمي النيل. لذا، جاءت عروسة النيل بلحن خُماسي، السُلم الذي يُمثل الغناء النوبي، كان هذا التعريف حاضراً منذ البداية وبكلمات عبد الرحيم منصور، الذي شكل معهما منير ثلاثياً دشن لوناً جديداً وثورياً في الغناء المصري.
في أغنية أخرى، "يا إسكندرية"، كلمات أحمد فؤاد نجم، وغناء منير، وظف مزيجه الخاص من اللحن النوبي، المتسم بالفرح، والمصري الشائع. ومع أنه استخدم مقام الكرد، يُلاحظ تلوينات طفيفة بالسُلم الخماسي في مطلع الجملة الموسيقية، ومنها كانت عبر عن تلك الروح التعريفية والاندماجية. اتخذ صوت منير مزيجاً من الصراخ والخطابية، بينما في تسجيلات منيب نفسه سنلاحظ البحة الحزينة، والغنائية المُذوبة بروح نوبية أصيلة. يستخدم منيب أدوات لحنية بسيطة... هي جملٌ تحمل صدى المزاج التعددي، الذي لم يكن يتسع له الغناء في مصر خلال عقود. واتخذ صوت منير في ألحانه طابعاً من الصراخ والخطابية.
هذا الصوت لم يقتصر حضوره على التقوقع الوطني، إنما يُقدم نفسه ضمن تعريف عربي أوسع، متغنياً بفلسطين، لكن على طريقته الخاصة، كما في أغنية "شجر الليمون". يهيمن صوت الكيبورد، مع أصوات الغيتارات والمؤثرات الكهربائية في الأغنية، وبلحن شجي ومؤلم، ينسج مأساة فلسطين برمزية غير مباشرة من كلمات عبد الرحيم منصور. كانت أغنية غير مألوفة في وقتها، بأسلوبها اللحني وبصيغتها التعبيرية عن القضية. وكسرت الخطابية السائدة في التعبير عن القضية، وفي لحظة أيضاً مُعاكسة، بعد أن أصبح الغناء الرسمي في عصر الانفتاح يستبعد قضية فلسطين من اهتماماته. وظف منيب مقام الكُرد ليمنح اللحن شحنة عاطفية، يعززها الطابع الإلقائي في غناء منير والمُعبر بتشنجاته الخاصة، كما لو كان يُقدم شكلاً من "البلوز" المصري. يُضاف إلى ذلك التكوين الذي ينسج فيه النغمة النوبية السمراء والمصرية، بروح حوض الأبيض المتوسط، إذ نرى حضوراً طفيفاً للقيثارة بنكهة متوسطية لافتة.
في ألبوم "شبابيك"، قدم منيب مفردات لحنية جديدة، لذا أصبح بالنسبة لجيلين مُلهماً بثوريته، ولم يقتصر حضوره على حالة نوبية متقوقعة أو متطرفة، إنما اتسمت بالانفتاح، وكأنها صوت مصري يتجاور مع أصوات أخرى. إضافة إلى نزوع متفرد في اختيار المواضيع الغنائية شعراً، سواء عبر حضور قاموس شعري مختلف ولا يراهن على السائد، أو في المواضيع التي تم استنفادها. فهو يغني مواضيع عن الغربة، عن الحرية، وعن الحياة.
فأغنية "يا وعدي ع الأيام"، بحزنها العميق ولحنيتها الرنانة، تشبه ترنيماً يرثي العُمر. لكن امتياز منيب في التعبير المُباشر، وبأقل المفردات اللحنية تعقيداً، ليمنحنا أغنية عذبة ما زالت قادرة على التأثير فينا. تعبر أغنية "المدينة" (من ألبوم شبابيك) عن تجربة الغربة في القاهرة، لأولئك القادمين من الجنوب. معاناة تقاسمها عبد الرحيم منصور، كاتب الكلمات، ومنيب ملحناً، ومنير غناءً. إنها أيضاً اغنية بلوز مصرية أخرى، يتماهى الصراخ المؤلم بالغناء، مع إيقاعات قوية. كانت غربة مزدوجة، لكنها في نفس الوقت تعبير عن غربة لمشوار طويل قطعه الثلاثة لفرض حضورهم على المشهد العام. لفرض الصوت المُهمل.
لكن، ماذا عن الأغنية الأكثر شهرة في بداية الثمانينيات، "الليلة يا سمرا"؟ الغنائية البسيطة لمزاج منيب والشجية على مقام النهاوند، خلقت كلها نمطاً جديداً من المقسوم المصري، بصيغة يحيى خليل المُبتكرة وقتها. هناك، سيعطي الغناء لإيقاع المقسوم شكلاً جديداً لتثوير الغناء المصري، وكان الكيبورد والغيتار والإيقاعات وبعض الأصوات انقلاباً على الفرقة الموسيقية.
لم تقتصر ألحان منيب على ابن منطقته محمد منير، فغنى له أهم المطربين الشباب في الثمانينيات وبداية التسعينيات، مثل حميد الشاعري ومحمد فؤاد وعلاء عبدالخالق وإيهاب توفيق وغيرهم. كان منيب هو السباق كصوت متمرد، وبالنسبة لهم كان أكثر من مجرّد مُلهم، إنه فارسهم الشجاع الذي كافح من أجل التعبير عن ذاته وحريته، من دون أن تُملى عليه ذائقة مُهيمنة. لم يكن مجرد صوت قادم من النوبة، إنما صوت مصر الذي منحهم روح التعدد. وفي هذا اليوم، قبل ثلاثين عاماً، انطفأ منيب، لكنه رحل بعد أن صالحه الزمن وأعاد لأغانيه الاعتبار. ومع أن ألحانه لا تبلغ مئة لحن، إلا أن قيمة منيب ليست بهذا الكم، بل بما عنته لكثيرين، جمالها اللحني الفريد والبسيط، وأيضاً صوتها الإنساني، وما تعنيه من حرية وإرادة واستقلالية. ألحان كانت كافية لتمنح منيب شكلاً من الحضور، إذ كان المُبشر الأول للأغنية المُتمردة، كان صاحب النبوءة التي تحققت في الغناء المصري.