نونا غابرينداشفيلي... "الملكة" السوفييتية تناور نتفليكس

02 فبراير 2022
واجهت غابرينداشفيلي الرجال وهزمتهم في لعبة الشطرنج (ستانلي شيرمان/Getty)
+ الخط -

يواجه عملاق البث التدفقي، نتفليكس، قضية تشهير جديدة، تقودها هذه المرة نونا غابرينداشفيلي، على أثر تصويرها في مسلسل The Queen's Gambit، تصويرًا محرفًا للواقع، كما ادعى محامو لاعبة الشطرنج، ذات الأصول الجورجية، والتي تبلغ اليوم ثمانين عامًا من عمرها.
تعترض المرأة الأولى الحاصلة على لقب FIDE title Grandmaster، على جملة وردت عبر أحد مشاهد سلسلة "مناورة الملكة"، التي تتابع حياة لاعبة الشطرنج الأميركية، بيث هارمون، في سعيها لمواجهة كبار أساتذة العالم في الشطرنج. يتطرق المسلسل إلى ذكر غابرينداشفيلي، عندما تتجه هارمون لمواجهة أصنام اللعبة في موسكو، هناك حيث تتحلق الكاميرا حول لاعبة شطرنج سوفييتية، وهي غابرينداشفيلي، أثناء تقديم المعلق لها بوصفها "بطلة العالم التي لم تواجه الرجال قط". مشهد صدم غابرينداشفيلي الحقيقية، والتي أكدت عبر مقابلة فيديو من منزلها أنها واجهت الكثير من الخصوم الذكور خلال مسيرتها المهنية، منهم الأميركي جيمس إدوارد تارجان والسوفييتي ميخائيل تال.
أوضح محامو غابرينداشفيلي زيف المعلومة المقدمة عبر المشهد، ووصفوه بالمذل والمتحيز جنسيًا، وزعموا أن الخطأ الذي ارتكبه صناع المسلسل، تسبب في تشويه عالمي لسمعة اللاعبة، على الصعيدين المهني والشخصي.


وقد ذكرت الدعوى المقامة ضد نتفليكس، وتبلغ غرامتها خمسة ملايين دولار، أن الشبكة تعمدت الكذب حول إنجازات غابرينداشفيلي من أجل الغرض الرخيص المتمثل في "زيادة الدراما"، عبر إظهار بطلتها الخيالية تفعل ما لم تفعله أي امرأة أخرى.
هكذا، بدلاً من عرض قصة تلهم النساء حول شابة تتنافس مع الرجال، أذلت نتفليكس المرأة "الحقيقية" التي واجهت الرجال وهزمتهم، ومجدت البطلة الخيالية، الأميركية، عوضًا عنها.
كانت نتفليكس قد طلبت من المحكمة رفض دعوى التشهير، بحجة أن المسلسل صرح من الخيال، وأن على صانعيه أن يتمتعوا بحصانة فنية بموجب الدستور، لكن الحكم الصادر عن ولاية كاليفورنيا منذ أيام قليلة، أوضح أن قاضية المقاطعة الأميركية، فيرجينيا فيليبس، تجد حجة غابرينداشفيلي معقولة، مشيرة إلى أن الأعمال الفنية ليست محصنة ضد التشهير، خاصة إذا ما تم الافتراء على أناس حقيقيين عبرها، وأوضحت أن حقيقة كون المسلسل عملًا خياليًا لا تعفي الشبكة من المسؤولية.
ليست هذه هي المرة الأولى التي يتعرض فيها عمل درامي، أو شركته المنتجة، إلى المساءلة القانونية، سواء من أفراد أو مؤسسات كبرى. ولعل "دعوى التشهير" هي الإجراء القانوني الأشهر في مجال الصناعات الترفيهية اليوم، خاصة الدرامية منها، ترافقًا مع الوعي المتزايد حيال الحقوق المدنية، واتساع هذه الأخيرة لتشمل أطيافًا مجتمعية لم تكن تشملها سابقًا، فضلًا عن الأموال الهائلة التي تكدسها شركات الترفيه، وتشكل في حد ذاتها عنصر جذب لكل متصيد.

"دعوى التشهير" هي الإجراء القانوني الأشهر في مجال الصناعات الترفيهية

ومع رواجه الكبير الذي نشهده اليوم، غدا مفهوم "دعوى التشهير" مثار جدل بين من يؤكدون على ضرورة إيجاد ناظم قانوني محايد، مهمته حماية حقوق الأطراف المختلفة، وآخرين يشككون في جدوى تلك الدعاوى، خاصة مع تحولها في بعض الأحيان إلى طريقة لجمع النقود، أو مصدر خطر على حرية التعبير، الفنية على وجه التحديد، ذلك أن طبيعة الفنون تتطلب التطرق إلى قضايا اليوم، والتعليق عبرها على أفراد محددين، ولا سيما أولئك الذين يتمتعون بسلطة سياسية أو اجتماعية أو اقتصادية.
إلا أن الانتقاد الأشد الذي يعبر عنه بعض معارضي قضايا التشهير، يتمثل في خوفهم من أن يتحول العالم إلى مكان شديد الحساسية، يتحرك فيه الفنانون برتابة ودقة، خوفًا من مصيدة المساءلات القانونية التي تجبرهم على دفع أموال طائلة تتحملها الشركات الربحية الكبرى، مثل نتفليكس، وتمثل عبئًا هائلًا على الفنانين اليافعين والمجربين الجدد الذين يجب أن يمتلكوا الحق في أن يخطئوا أحيانًا.
لا وجود لشريعة واضحة تنظم الملابسات المختلفة التي من الممكن أن تواجه الفنان، إلا القاعدة الذهبية التي بات ممارسو الفنون يعرفونها اليوم: "لا توجد فكرة خاطئة، بل هناك معلومة خاطئة فقط"، والتي توضح أن التأويل الفني يختلف اختلافًا تامًا عن سرد الحقائق، ذلك أن الأول لا يقاس بمقاييس الخطأ والصحة، فهو موقف الفنان الشعوري والفكري من العالم ورؤيته الخاصة، بينما يمكن للحقائق أن ترد بشكل خاطئ أو مضلل.

إن هذه المحاكمة للأعمال الفنية، إضافة إلى العائد المالي، هي بالضبط ما يجعل الفنون الأخرى، مثل الرسم، قابلة للتحريف من دون أي تداعيات قانونية تذكر؛ فالبورتريه، أو فن رسم الأشخاص، الذي يعمد إلى تقديم صورة مغايرة أو مقاربات مختلفة للشخص ذاته، تصل إلى حد التشويه أحيانًا، يقدم نموذجًا واضحًا عن إمكانية التلاعب بالواقع، من دون تقديم معلومات خاطئة عنه.

لا شك أن نتفليكس قدمت معلومة خاطئة حول لاعبة الشطرنج الشهيرة نونا، ففي حين كان بإمكانها اختلاق اسم آخر تماشيًا مع القصة الخيالية المفترضة، أو دعم مزاعمها بما يمكن أن يثبتها، أو توضيح سبب ذكر تلك المعلومة رغم تناقضها مع الحقائق التاريخية الواضحة، أو ربما الاعتذار ببساطة، اختارت الشبكة التمسك بما ورد عبر سلسلتها الشهيرة، ما يجعلها اليوم عرضة للمساءلة القانونية المحقة من ناحية، وموضع تساؤل من قبل متابعيها حول إذا ما كانت نتفليكس تتحين فرصة أخرى عبر تجاهل فريقها القانوني لملابسات كهذه.

المساهمون