نولان بعد كوبريك: تناقض سينمائي في قراءة الحرب

18 سبتمبر 2023
أوبنهايمر/كيليان مورفي: لا تلتقط الكاميرا ما فيه من حزن نبيل (الملف الصحافي)
+ الخط -

يعشق المخرجون السينمائيون تصوير الحرب، التي، بحسب كارل فون كلاوزفيتز، "استكشاف فنّ العنف في تدمير أعدائنا". في هذا السياق، أنجز كريستوفر نولان فيلمين عن الحرب العالمية الثانية، في ستّ سنوات: "دانكيرك" (2017) و"أوبنهايمر" (2023). تجري وقائع الأول في شواطئ أوروبا، بينما وقائع الثاني تجري في عمق صحراء أميركا. صُوِّر الأول بكاميرا محمولة بسلّم لقطات جد متنوّع، وحوارات قليلة في كادرات تجمع بين الشخصيات والفضاء؛ وصُوِّر الثاني، الذي روى سيرة الدكتور النووي روبرت أوبنهايمر، بكاميرا ثابتة تلتقط حوارات طويلة مملّة، ورؤوساً تتكلّم، و"كادر" ثابتاً يقتصر على الأكتاف والرؤوس.

عرض "دانكيرك" علاقة الجنود الشبّان بالموت، وعرض "أوبنهايمر" عباقرة ألمانيا ويهود نيويورك المتفوّقين في الجامعات الأميركية. مَجّدَهم في حوارات طويلة عن محنة يهود ألمانيا اليساريين، أحفاد كارل ماركس الذين تكرههم نيويورك. هنا، خصّ نولان وقتاً ميّتاً كثيراً لإدانة المكارثية. كلّ ذلك لإظهار الفيزيائيّ مُفيداً قبل الحرب، وعدوّاً بعدها. هذا يُسبِّب الندم. لا يلتقي منطق الباحث المثالي مع منطق القوّة لدى الجنرالات.

الفيلمان يتناقض أحدهما مع الآخر، أسلوبياً. لكنّهما يتكاملان دلالياً.

في المنظور الأخلاقي، قدّم كريستوفر نولان مرافعة لغوية عن البراءة الأخلاقية لرجلٍ صنع قنبلة مُدمِّرة، خرجت من يده لتعمل ضد جنون النازية، وضد النزعة الانتحارية للساموراي الياباني. صار الأمر بأيدي السياسيين لهندسة شكل المستقبل. لذلك، شَعَر الباحث بالندم والتهميش، بينما أكمل التاريخ مسيرته التقدمية: حقّقت القنبلة نصراً حربياً لأميركا، أثمر أرباحاً سياسية، ترجمتها واشنطن إلى مكاسب اقتصادية، انتهت بإسقاط المعسكر الشرقي، الذي سَرَق القنبلة وامتلكها أيضاً، ولم يملك أبداً اقتصاداً متيناً.

بمجرّد تَحقُّق هدف الحكومة الأميركية، تعرّض الباحث النووي للإهمال. باحثٌ مِحوري ملتزم، لديه ضمير قلق على مصير البشرية. صار البطل المثالي مُتّهماً بالخيانة في زمن المكارثية، وخضع للتحقيق لضبط الخائنين للوطن الأميركي في المجال الأكاديمي النبيل. قدّم نولان الدكتور النبيل الإنساني أوبنهايمر كمفخرة وطنية، بينما قدّم ستانلي كوبريك الدكتور سترانجلاف ("الدكتور سترانجلاف أو: كيف تعلّمتُ التوقّف عن القلق وحُبّ القنبلة"، 1964)، الدكتور النووي، مَغروراً ومجنوناً بقوة القنبلة، وهو يمارس الروديو على صاروخٍ، كامتدادٍ لسلوك رعاة البقر.

صَوَّر نولان رؤوساً تتكلّم، في فيلمٍ عن الحرب، بشكل مُملّ، لأنّ ندم أوبنهايمر يجري في جمجمته التي لا تلتقط الكاميرا ما فيها من حزن نبيل؛ بينما صَوَّر كوبريك إدانةً للدكتور النووي وحماقته، بحيث يستحيل التعاطف معه.

 

 

مقارنةً بين الفيلمين، أخلاقياً، أُشْبِعَ فيلم كوبريك بالسخرية، خاصة في لقطات النقاش النووي حول طاولة الاجتماع الدائرية العملاقة، التي توحي بجنون العظمة. يعتقد كوبريك أنّ "دروب المجد" (فيلمٌ له أنجزه عام 1957) مصيرها القبر. لذلك، تناول الموضوع كوميدياً، مع "كوميديا سوداء"، لكشف طبيعة الإنسان الشريرة. طبّق كوبريك الدرس الفني من شكسبير: "الحياة قصة رواها أحمق". لذا، لا جدوى من أنْ يتعقّل من يرويها. بينما صوّر نولان تَعقّل الدكتور أوبنهايمر النادم ونُبله. تصوير الصوابية الأخلاقية أقلّ متعةً في الأدب والسينما.

هذه أفلام مُصوّرة بأساليب مختلفة، يجمعها مبدأ مناهضة الحرب، والحرب رحى عمياء تطحن الشعوب.

هاتان مقاربتان لموضوع الحرب، تختلف إحداهما عن الأخرى. الحرب أبرز أشكال العنف المنظّم. في فيلمي كوبريك ونولان، تمّ تحويل النظرية الفيزيائية الخام إلى منجز عسكري. كانت لنظرية أينشتاين حدودها على الورق، لذلك وَجَب نقلها إلى الميدان. هذا فعله أوبنهايمر. كان الـ"براكسيس"، بمفهوم ماركس، أكثر كثافة من التنظير. كلّ ما تراكم في ثلاثة قرون من تاريخ الفيزياء، بعد نيوتن، على الورق، أثمر قنبلةً جَلَبت نصراً ميدانياً مُدوياً.

فنّياً، يتشابه فيلما كوبريك ونولان في مشاهد الأسود والأبيض، وفي نحت موضوع كبير، مُتنوّع وخطر، في حوارات في فضاء مغلق. يتحدّث أندره بازان عن استعصاء المادة على الفكرة، على الأسلوب. لذا، لجأ المخرجان إلى النحت، وهذا أسلوب يُمكِّن من إخضاع المادة الخام وصقلها، تبعاً لوجهة نظر كلّ مخرج. فبدل تصوير مسار القنبلة والحرب، تَمّ نحت كلّ القصة في ملامح الدكتورين ومحيطهما، كي لا يُرهِقا انتباه المشاهدين بالتفاصيل الزائدة. لجآ إلى النحت الفني للتخلّص من التشتّت المُتعِب. النحت تكثيفُ المُتعدّد في الواحد. ترهق الاستطرادات انتباه المتلقي.

في كتابه "فنّ الشعر" (1674)، أنشد بوالو ديبريو: "إذا غاب عنّي معنى أبياتكم/ شرَدَ ذهني في الحال/ فهو سريع التقلّب أمام الكلام الغامض".

ختاماً، يبقى ستانلي كوبريك مُخرجاً ذا أثرٍ مُدوٍّ. لكنّ كريستوفر نولان يحفر مكانته بعزيمة وموهبة لا تفتران. تقدّم أفلامه عملاً فنياً متكاملاً، يجعل عشّاقه ينتظرون جديده للبحث عن الصلة بين الفيلم الجديد والأفلام السابقة. نولان مخرج مؤلّف في حضن شركة إنتاج عملاقة "يونيفرسال". حقّق "أوبنهايمر" منجزين: نهج سينما المؤلّف، الذي يُقدّره السينيفيليون النخبويون، بالإضافة إلى صمودٍ جماهيري في القاعات السينمائية، ثم سيصمد في منصّات المشاهدة المدفوعة.

صناعة الفن عامة مُكلفة، وعليها تغطية تكاليفها، وتوفير ربح للمواهب السينمائية العظيمة. مع نجاح أفلام نولان، تقول أخبارٌ إنّه سيتعاقد مع شركة "مترو غولدوين ماير" لإخراج نسخة جديدة من "جيمس بوند، 007". حينها، سيُضطرّ إلى تقليل حوارات الندم، ليُصوّر مُطاردات أكثر.

المساهمون