لم يكن إعلان حامد سنو نهاية فرقة مشروع ليلى مفاجئاً، كان فقط إعلاناً رسمياً لخبر معروف منذ أكثر من عامَين. الفرقة اللبنانية التي بدأت مسيرتها بالجدل والضجة، أقفلت الباب على موسيقاها أخيراً بهدوء تام، وبلا أي جلبة أو ضجيج: لن نعمل سوية بعد الآن. هكذا قال حامد سنو فقط.
لهذه النهاية المتوقعة أسباب عدة مباشرة، أبرزها الإغلاقات التي اعقبت تفشي فيروس كورونا، وأثر الوباء على صناعة الموسيقى وإنتاجاها، وتراجع مداخيل العاملين فيها... لكن لحكاية مشروع ليلى منذ بدايتها حتى اليوم، مسار لم يسلم من الألغام الفنية والاجتماعية والدينية والسياسية، فكانت نهاية الطريق واضحة وإن تأجلت مراراً.
موسيقياً، عرف حامد سنو ورفاقه، كيف يخلقون من مشروع ليلى، حالة خاصة، لم يعرفها المشهد الموسيقي اللبناني ولا حتى العربي. فمنذ الألبوم الأول "مشروع ليلى" (2009) كانت هوية الفرقة واضحة، وخياراتها الموسيقية واضحة، والخيارات الجنسية لسنو كذلك واضحة. فالموسيقي الشاب الذي جاهر مراراً بمثليته الجنسية، غنى في الألبوم الأوّل "شم الياسمين" عن علاقة مثلية بين رجلين. لم يكن الخيار الجنسي نفسه هو المفاجئ بقدر ما كانت المجاهرة به، في فترة كان لبنان يعرف هامشاً واسعاً من الحريات الفنية والشخصية، بعد سنوات قليلة من اغتيال رئيس الحكومة رفيق الحريري، وخروج الجيش السوري من لبنان. كان الألبوم ابن تلك السنوات المشحونة بالعواطف واللامبالاة والأحلام الكبيرة في بيروت، فجاء العمل كاملاً لبنانياً لناحية اللهجة والثيمات المعالجة.
لكن النجاح العربي للفرقة، كان مع ألبومها الثاني "الحل الرومنسي" عام 2011. كانت الشوارع العربية جاهزة لاستقبال النمط الموسيقي الذي تقدمه "مشروع ليلى"، مع صعود الفرق الشابة في مختلف أنحاء الدول العربية: في مصر وتونس والأردن وفلسطين. كانت بدايات الربيع العربي، وكانت بدايات ترسيخ نجومية مشروع ليلى، كتجربة موسيقية واجتماعية وجنسانية واضحة المعالم ومباشرة. بصوت سنو غير التقليدي بمفاهيم السوق، والتوزيعات الموسيقية اللحنية والإيقاعية، والألوان والألعاب البصرية، وجدت الفرقة مكانها. وفي زحمة ما عرف وقتها (عشوائياً) بموسيقى الأندرغراوند، خطّ حامد سنو ورفاقه مسيرتهم. جالوا العالم، وتصدروا أغلفة الصحف والمجلات. وجاء ألبومهم الثالث والأنجح ربما "رقصوك" عام 2013، ليجعل من "مشروع ليلى" تجربة استثنائية، يذهب بعض المتطرفين من جمهور الفرقة، حد وصفها بالأيقونية.
لكن بينما كانت الفرقة اللبنانية تردد "فينا ننطر الفجر لنخلص عد النجوم، ونعيد ونعيد ونعيد، فينا نحمل الصخر فوق الجبل ونرميه، ونعيد ونعيد ونعيد" كان العنف يرتفع في العالم العربي، والردة على الثورات تغرق الشوارع من القاهرة إلى حلب بالدماء.
ورغم أن معالم النهاية تأخرت سنوات بعد ذلك الألبوم، ورغم أن الفرقة أصدرت بعدها ألبومها الأخير "ابن الليل" (2015)، إلا أن مسار الفرقة بدأ منذ ذلك الحين بمواجهة أزمات أكبر من نجاحاتها وأكبر من قدرة أفرادها على امتصاصها. بالتوازي كانت نجومية سنّو، وتحوله إلى رمز عند شريحة كاملة من الجمهور، تطغى على نجاح الفرقة كمجموعة تقدمّ محتوى فني. وبدأت تصريحاته وأداؤه المسرحي المحبب في مختلف الحفلات يطغى على كل شيء آخر.
لكن التراجيديا الحقيقية التي طبعت مسيرة "مشروع ليلى" ستبقى انتحار الناشطة المصرية في مجتمع الميم سارة حجازي. تفاصيل القصة معروفة، ونهايتها المأساوية معروفة: شابة مثلية تشارك في حفل لمشروع ليلى في القاهرة عام 2017 وترفع علم قوس قزح، في لحظة نشوة ومجاهرة. هكذا بدأت القصة. عام 2020، هذه الشابة تنتحر في منفاها الكندي، بعدما اعتقلت لـ3 أشهر بعد الحفلة، وتعرضت للتعذيب والتحرش. هذه نهاية القصة. وبين البداية والنهاية التصق اسم الفرقة بالشابة ومصيرها.
تواصل بعدها حصار مشروع ليلى، منعت حفلاتهم في الأردن وفي الخليج وصولاً إلى لبنان، الذي بدأ عام 2019 يعرف تدهوراً سريعاً نحو قاع الحريات الفنية والثقافية والإعلامية. في ذلك الصيف كانت الاستدعاءات بالجملة تطال ناشطين على مواقع التواصل، وكانت على جبهة أخرى، مجموعة من الأطراف السياسية والدينية المسيحية تحرض ضد مشروع ليلى وضد إقامة حفلتها ضمن مهرجانات بيبلوس، بسبب "إهانة الدين المسيحي". ولأن للجموع الدينية الغاضبة الصوت الأعلى دائماً في لبنان، ألغيت الحفلة "منعاً لإراقة الدماء".
لكن يصعب فصل مسار "مشروع ليلى" عن مشهد، موسيقي أيضاً. فالساحة الموسيقية العربية عرفت تغييرات كثيرة منذ عام 2011: ظهر نجوم، لا سيما بينما الفرق الشبابية، واختفى نجوم. عرفت مختلف أنماط الموسيقي تغييرات في الشكل والإيقاع والكلام، من البوب إلى الروك ثم الراب والتراب، والمهرجانات... حتى شكل الموسيقى تغير: الإنتاج، وصناعة النجوم، ورعاية الحفلات. خلال سنوات خرجت الفرق الغنائية (مؤلفة من شباب ورجال حصراً في أغلب الأحيان) من تحت الأرض والباحات والمسارح الصغيرة، نحو المسارح الكبيرة، والمهرجانات العربية الأساسية، وإعلانات شركات الاتصالات والمصارف والمعارض. لم يعد الماينستريم حكراً على عمرو دياب وتامر حسني وراغب علامة... هذا الواقع الذي دخلته أغلب الفرق الكبرى في العالم العربي تحديداً في مصر والأردن، لم يناسب مشروع ليلى، أم أن مشروع ليلى لم تناسب هذا الواقع، فبدأت حفلاتها في العالم العربي تتراجع، واقتصر نشاطها على أوروبا والولايات المتحدة، كما بدأ إنتاجها يتراجع.
قد يكون ما سبق سهّل الوصول إلى النهاية، ثم جاء الوباء وأعلن النهاية، وقد يكون القرار قراراً شخصياً لأعضاء "مشروع ليلى" فقط، لكن بعيداً عن كل الاحتمالات ستبقى فرادة هذه التجربة بموسيقاها وأفرادها وارتدادتها، واحدة من أكثر المحطات أساسيّة عند رواية مسار الموسيقى العربية في الألفية الجديدة.