استمع إلى الملخص
- في "صح النوم"، أنشأ قلعي مجتمعًا مصغرًا يعكس تحديات المجتمعات العربية، مستخدمًا شخصيات مثل "غوار الطوشة" لتمثيل الفرد الذي يحقق مصالحه بالاحتيال، مما يعكس الفشل في تحقيق المصالح المشتركة.
- أكد قلعي على دور الثقافة في تشكيل السلوك الاجتماعي، معتبرًا إياها مصلحة عليا لحل قضايا المجتمع، وسعى من خلال أعماله لتوجيه الناس نحو فهم أعمق للهوية والمكانة في العالم.
قد يكون النظر في كتابات نهاد قلعي (1928 ــ 1993) للتلفزيون متأخراً، فما أنجزه ــ على الرغم من صفاته التأسيسية لهذا النوع من الكتابة ــ ذهب أدراج الرياح، لا بسبب التغير التكنولوجي الذي طرأ على هذه الحرفة فحسب، بل بسبب ما عصف بسيرورات التجمعات السكانية في المنطقة العربية التي حاولت بعيد استقلالاتها تلمس طرق الإرشاد نحو بناء المجتمع بالمعنى الحديث للكلمة. وقد فشلت هذه التجمعات في ذلك، على الرغم من التنبيهات القوية التي أطلقها الكثير من أصحاب البصيرة من كافة الاختصاصات.
يمكن اعتبار نهاد قلعي واحداً من هؤلاء المتبصرين الذين رأوا الانحراف في مسألة تأسيس المجتمع الضرورية بعد الاستقلالات، وكذلك إثر قيام "الثورات السياسية"، المطلوب منها حتماً تأسيس المجتمع الحديث، بناء على معطيات العصر الحديث، بالإضافة إلى فلسفة أي ثورة كانت.
اشتغل قلعي على التفكير النقدي وكذلك الانتقادي على ما بينهما من فوارق، واصلاً في إنتاجاته الكتابية إلى ثلاثيته الأهم: "مقالب غوار" (1966) و"حمام الهنا" (1968) و"صح النوم" بجزأيه (1971، 1973). وقد عبرت ثلاثيته عن خلاصاته التفكيرية عن الفن والسينما والمسرح، وأخيراً التلفزيون، ذلك العالم الجديد الذي ينوس بين الإذاعة المرئية، والسينما في شرطها المسرحي. تم له ذلك وسط قوة الرقابة الصاعدة، حيث كان لا بد من اكتشاف طريق جديدة للتعبير عن حالة الاستبصار الثقافي التي تجاوز فيها الانتقاد (النقد البناء لاحقاً) إلى حالة التفكيك المعرفي لمفهوم المجتمع المطلوب، وتقديمها تبسيطياً، صرخة مؤداها أن هذا البناء سيفشل وينهار، طالما المواد الأولية في عملية البناء المطلوبة على هذه النوعية وهذه الشاكلة.
وهذا بدا واضحاً خصوصاً في "صح النوم"، عمله الأكثر نضجاً الذي يمكن اعتباره خلاصة معرفية تلت "مقالب غوار" و"حمام الهنا" اللذين أسسا لكوميديا تلفزيونية تتفادى الرقابات الأيديولوجية. أسس قلعي في هذا المسلسل مجتمعاً عالمثالثيا يصحو على الحداثة ويطلبها، ولكن بشروطه، فاخترع حارة سمّاها "كل مين إيدو إلو"، تعبيراً عن الفردانية في الأداء اليومي أثناء تحقيق المصالح البشرية الضرورية للعيش، ووضع المكان الرئيسي للفعل الدرامي في فندق "صح النوم" المفتوح على كل أنواع البشر. كما وضع مجموعة شخصيات مدروسة بعناية، تمثل العناصر المهيكلة للجماعة البشرية من أصحاب المصالح، فجعل السلطة بيد شخصية "بدري أبو كلبشة" (الممثل عبد اللطيف فتحي"، وهو اسم يلخص مصالح محتكر العنف، و"أبو عنتر" (ناجي جبر) ممثلاً صنف البلطجية في المجتمع، والمثقف "حسني البورظان" (نهاد قلعي) الممنوع من التعبير، و"فطوم حيص بيص" (نجاح حفيظ) صاحبة الفندق الباحثة عن الحب، وهي شخصية نسائية قوية ومنفتحة. ويبقى "غوار الطوشة" (دريد لحام) الرجل الصغير المحتال الذي يحقق مصالحه بالفهلوة والتشاطر.
وكان العنوان العلني للدراما هو تنافس "غوار" و"حسني" على قلب "فطوم"، ولكن الدراما الحقيقية كانت في عدم المقدرة على تفعيل المصالح المشتركة، العمود الأساسي لتأسيس المجتمع، أو حتى الوصول إلى وعي تلك المصالح.
بين هذه القوى (إذا صح التعبير)، نمت تفاعلات سكان الحارة/الوطن، حيث جيرت هذه القوى لصالح صراع فردي ووهمي أيضاً على قلب "فطوم حيص بيص"، فيكسب "غوار" الفهلوي والتافه كل جولات الصراع، بالاستعانة بـ"أبو عنتر" بلطجي الحارة، أو بالاحتيال على القوانين التي تحولت إلى صورية بسبب عدم جدية السلطة في مسألة المساواة، فكل القوانين قابلة للتلاعب عبر الاستثناء، بحيث تتحول شخصية "أبو كلبشة" هزلية قيمتها متأتية من احتكارها شخصياً للعنف، يتم التلاعب بها من قبل الفهلوي "غوار" عبر الامتداح والنفاق. في هذا تظهر صرخة قلعي الاستبصارية: لا يمكن تأسيس مجتمع من هذه المواد الأولية، لأن المطلوب هو الاشتراك بالمصالح لبزوغ هذا البناء الحديث المسمى "مجتمع".
فالجميع على سبيل المثال، بحاجة إلى ذلك المثقف الذي يطرح دوما سؤالاً مستقبلياً عن إيطاليا والبرازيل، ولكن معاملته تتم كشخص فائض عن الحاجة، مهمل لا قيمة له بين هذه القوى المتناهشة للمصالح، مشيراً إلى مهمة "المجتمع" في الإجابة عن الأسئلة الكبيرة، ومنها إبراز هوية موحدة أمام العالم، ليصير المثقف نفسه مادة للتناهش، متحولاً إلى كائن يدافع عن أمانه الشخصي، وسط أنواءٍ تهدد الوجود الجمعي نفسه.
شيد نهاد قلعي عمله على استشراف فشل العملية الاجتماعية للانتقال إلى مرحلة اجتماعية جديدة، يتم فيها التعامل بثقة مع مستجدات العصر كالتكنولوجيات والاقتصاد والهوية، نتيجة فساد المفاهيم المؤسسة، بدلالة أدائها على أرض الواقع. وشدد على الحاجة إلى إيجاد "الإنسان المجتمع" الذي يشترك مع كل الآخرين في المصالح، أي السبب الأول في تشكيل نسيج اجتماعي قابل للارتقاء. إذ عوّل قلعي على الثقافة كونها المسبب الأول للسلوك البشري، لتتحول الثقافة نفسها إلى مصلحة عليا يمكن استثمارها، في حل مسألتي المنعة والشبع.
لم يكنّ قلعي الاحترام لكافة شخصياته، إلا من ناحية البناء الفني التقني للشخصية، فكل شخصياته مهلهلة وتافهة في بعدها الاجتماعي، وإبداعها الوحيد هو في الاتجاه السلبي، أي في مقدرتها على الاحتيال على الآخرين وشفط المصالح بناء على غفلتهم، مما يؤسس حالة بائسة من الأمان الاجتماعي، بحيث تتحول قيم العيش البشري إلى قيم إسعافية تقام على عجل بطريقة تفتقد القيم الخيرة، أو ما يمكن تشبيهه بقطع غابة من أجل صناعة عود كبريت.
للأسف، هذا ما حصل في جل التجمعات السكانية العربية، فالمآل الذي وصلت إليه مؤسس تماماً على تلك القيم الثقافية التي تقرر الخلاص الفردي، حتى لو أدى إلى تبعثر الغاية من تلك القيم المجربة عالمياً، فجميع النماذج المطروحة في العمل غير صالحة ثقافياً للقيام بمهمة تأسيس "مجتمع" على الرغم من وجودها الفيزيائي وأغلبيتها العددية، فميزان المساواة لن يستقيم فيها طالما حافظت على هذه الثقافة الفردانية.
لم تنقد أعمال قلعي من الناحية المجتمعية، ولم ينظر إليها بجدية كافية، فالرؤية إلى المجتمع لديه كانت من أوليات تلك المرحلة، وهو ابن دمشق الثقافية ونواديها الفنية (استديو البرق الفني، والنادي الشرقي، والمسرح القومي...)، فالرجل أعمق مما فسر به، بوصفه كاتب حكايات كوميدية للنظارة، بل هو فاعل عارف في الوسط الثقافي السوري الذي لم يفصل الفن عنه في أي وقت حتى يومنا هذا.
في ثلاثيته التلفزيونية الآنفة، يمكننا لمس نقديته الحساسة تجاه الخلاص الفردي، فالبلاد التي لم تكن ذات اسم قبل الاستعمار صار لزاماً على منتجي الثقافة أن يجدوا لها معنى لاسمها، وهوية تمايزها، ومكانة فعالة في هذا العالم، وهذا ما حاوله نهاد قلعي مع جيله في تأسيس الفعاليات الثقافية والتوجه بها نحو الناس، لقناعته أن الثقافة هي محرك السلوك.