نقد الدراما العربية: ليس انتقاداً أو مديحاً أو رقابة

28 نوفمبر 2024
حي "باب الحارة" في منتجع "القرية الشامية" قرب دمشق، أغسطس 2008 (لؤي بشارة/ فرانس برس)
+ الخط -

استمع إلى الملخص

اظهر الملخص
- تعاني كلمة "نقد" في اللغة العربية من سوء تفسير، حيث تُخلط بين "الانتقاد" و"النقض"، مما يؤثر على دور النقد في تحليل وتقييم الأعمال الإبداعية بشكل منهجي.
- الدراما التلفزيونية العربية تفتقر إلى النقد الحقيقي الذي يسهم في تطويرها، حيث تُعامل كسلع استهلاكية دون التركيز على الجودة، مثل مسلسل "باب الحارة" الذي لم يُقيَّم نقديًا بجدية.
- النقد الدرامي الحالي يفتقر إلى الأسس المعرفية ويركز على الانتقاد السطحي، مما يؤثر سلبًا على ذائقة الجمهور، بينما يجب أن يكون النقد مبنيًا على مرجعيات معرفية متعددة لتحليل الأعمال بعمق.

ربما كانت مفردة "نقد" بالعربية من أكثر المفردات التي تعرضت لسوء التفسير، حتى لا نقول سوء الفهم. فهذه الكلمة المترجمة عن كريتيك، والتي تعني في أحد وجوهها إبداعاً موازياً للخطاب الإبداعي ومنه الدراما، والتلفزيونية منها بالطبع، التبست، وذهب تفسيرها باتجاه "الانتقاد" تارةً و"النقض" تارة أخرى، وهي اتجاهات شفوية/ سماعية تذهب بالتصور إلى أماكن أخرى لا تفي بالغرض، كما تعرضه لإعدام ضرورته، وبالتالي انعدام المسؤولية عن المنتوج مهما كانت علاته، وهنا تبرز صحية "النقد" في الحفاظ على هذا المنتوج عبر صيانته الدائمة من الشطط خارج المعايير، تلك المعايير نفسها القابلة للنقد والارتقاء عند احتكاكها مع منتوجات إبداعية أصلية، على أساس أن النقد هو عملية تفكيك النص الإبداعي وإعادة تركيبه على أسس منهجية تراعي التركيب المنطقي للخطاب الإبداعي.

هذا الاختلاط في تفسير المفردة عطّل المهمة الأساسية للنقد باعتباره مرافقاً تأسيسياً للإبداع. وهنا نتوقف أمام ظاهرة الدراما التلفزيونية العربية منتوجاً إبداعياً من جهة، وسلعةً استراتيجية يستهلكها عدد هائل من المتابعين من جهة أخرى. نراها معفية من النقد، على الرغم من مرورها في مجموعة من الفعاليات "الانتقادية" أو "المدائحية" وحتى "الهجائية التثريبية"، والتي تسمى تجاوزاً "نقداً"، في خلط صريح وعمومي بين النقد والانتقاد، أو ما سمي لاحقاً النقد الانطباعي، وهي عملية شخصية تخضع في أغلبها إلى معايير ذاتية ومزاجية في تقييم العمل الفني.

لم تتعرض الدراما التلفزيونية العربية للنقد طوال حياتها التي أصبحت طويلة نسبياً، بمعنى أنها لم تعد في حيز الطفولة التي تحتاج إلى رعاية وتشجيع، وذلك لعدم الالتفات إلى تأسيس منهجية أو أكثر لتناول هذا المنتوج المحسوب على الإنتاج الفني الإبداعي. فعلى الرغم من ضخامة الظاهرة وتأثيرها، فإنها غير محتكمة إلى محددات الجودة والأصلية الإبداعية. مسلسل مثل "باب الحارة" الذي لم يحصل على أي جائزة من قبل الكثير من لجان التحكيم لطالما حاز جائزة الجمهور التي ترفق بمسابقات كهذه على سبيل الإعلان والدعاية (جائزة أدونيا السورية مثالاً)، وهذا ما يعبر عن اختلاط المعايير، إذ لا تصل أي معارف نقدية للجمهور، لعدم وجود هذا النقد، أو بالأحرى عدم تأسيسه أصلاً، فالنقد بالمعنى المعرفي مثرب، بما يقضي بعدم تمدده صوب السلطات الاجتماعية من ثقافية وأيديولوجية وسياسية وعرفية. فهو بالعيار المعرفي يكشف أسرار البنية الإنتاجية لهذه السلطات.

عدم التعرض للنقد هو نفسه مشكلة من مشكلات صنع الدراما التلفزيونية، فهو واحد من مقوماتها، إذا ما اعتبرناها منتوجاً إبداعياً تجتمع فيه العديد من الوسائط، كالأدب والفنون التشكيلية، وكذلك المسرح والكاميرا السينمائية. ولكل هذا جماليات ومرام مدروسة ومقصودة، من دون ارتجال يذكر، كالاعتماد على الموهبة وحدها، أو بالأخذ بمقولة "الجمهور عاوز كده"، أو أن المتلقي لا يعرف أسرار المهنة ويمكن تمرير الأشياء عليه بسهولة. ومن ذلك أيضاً استخدام المشاهير والنجوم المحبوبين من أجل تمويه حقيقة عدم احترافية العمل، حتى لا نقول تهافته، إذ لا مسؤول، بالمعنى الفني لا بالمعنى التربوي، عن نتائج صناعة عمل درامي تلفزيوني، مهما كانت قماشته الفنية الإبداعية ضعيفة، ومهما كان تأثيره خطيراً. وهنا لا نقصد الرقابة مطلقاً، فهي شأن آخر، كما أننا لا نقصد التحكم بأفكار ومقاصد صناع العمل، فالنقد لا يصوب ولا يخطّئ العمل الإبداعي، وإنما يحلله بناء على مرجعيات معرفية، ناتجة عن مجموعة من العلوم، منها على سبيل المثال علوم النفس والاجتماع والإحصاء والكتابة الإبداعية. فمثلاً يمكننا نقد عمل درامي تلفزيوني بناء على ثيمة الخوف عند صناع العمل المنعكس في منتوجهم، وهذا موضوع ليس مرتبطاً بتحسين العمل أو تقبيحه، وهكذا يمكننا نقد الأعمال الدرامية من ناحية الحداثة ومفاهيمها المتنوعة، وخصوصاً أننا نستخدم في صناعة هذه الدراما أكثر الآلات والوسائل الإلكترونية حداثةً، في محاولة ربما تكون قياس المنتوج إلى مؤهلات المنتج، وفي هذا نوع من التأهيل، للصانع والمتلقي، وليس مجرد الانتقاص من قيمة العمل الفني، حتى لو كان ذلك موجوداً في طيات العملية النقدية.

هناك المئات من "نقاد" الأعمال الدرامية التلفزيونية، مع التأكيد على ضرورة وجود هذا النوع من المواد الصحافية، أو نشاطات منصات التواصل الاجتماعي. لكن هذا المحتوى في أغلبه لا يرتكز ولا يتبع أي آلية معرفية يمكنها تحويل المعلومات إلى معرفة، على غرار المادة المنقودة نفسها، فهذا النوع من " النقد"، هو الانتقاد بعينه، حيث يتم ترصد الأخطاء، أو الإجادات، ليصار فوراً إلى قدحها أو مدحها، وهذا إذا كان الانتقاد جدياً، ولكن أن ينتقل هؤلاء "النقاد" إلى حيز رصد الملابس والمكياجات في المهرجانات، أو متابعة الأمور الشخصية ومظاهرها للفنانين والفنانات، فهذا لا يعتبر نقداً، ولا أصحابه نقاداً، بل هو استغفال للمتلقي، وإبعاده عن البؤرة الحقيقية للعمل الفني، بالإضافة إلى التأثير في ذائقة المتلقي وجعلها استهلاكية، بمعنى الاستجابة إلى الإعلان من دون التحقق من جودة السلعة.

لما تزل مفردة "النقد" في أيامنا هذه مرتبطة بالهجاء والتثريب، في كافة المجالات، وأهمها السياسية والاجتماعية التقاليدية، إذ يخضع تفسيرها إلى علوم اللغة، وليس إلى مجال تطبيقي معرفي يشرّح العمل الفني ويعيد إنتاجه بصورة تفسيرية لمندرجاته.

المساهمون