لأفلام الحرب نسبة كبيرة في الإنتاج السينمائي العالمي لأسباب عدّة، منها اثنان جعلا هذه الأفلام تتقدّم إنتاجات كثيرة، وتستقطب إقبالاً كبيراً من مُشاهدي السينما. ولعلّ من أهم هذه الأسباب المحمول السياسي للأفلام، لنشر أيديولوجيات وصُوَر نمطية ودعائية تُبرز القوّة الكافية. ثانياً، تمويل الشركات والاستوديوهات الكبرى أفلاماً كهذه، ووضع كلّ العناصر اللوجستية في خدمتها، لا سيما التقنية اللازمة، لتتوافر لها كلّ أسباب تقديم صورة جمالية لها. والمتلقّي يتذكّر الكثير منها، خاصة التي أنتجتها السينما الأميركية.
هذا لا يعني أنّ كلّ أفلام الحرب تخضع لشروطٍ كهذه، فبعضها ساهم، بشكل فاعل، في كشف حقائق تستقصي أسباب اندلاعها، وتأثيرها المدمّر.
لا شكّ في أنّ صناعة أفلام الحرب، في الأعوام الأخيرة، تطوّرت بشكل كبير، تزامناً مع التطوّر التقني المضطرد لصناعة السينما نفسها. وتوسّعت الموضوعات التقليدية لهذه الحرب، لتصل إلى ابتداع أشكال خيالية لها، لكنّها لم تخرج من إطار ثنائية الخير والشر.
حروب أخيرة كثيرة نشبت في الأعوام القليلة الماضية ستكون بالتأكيد موضوعاً صالحاً للسينما، وهذه المرة ستكون الوثائق حاسمة، خاصة بالنسبة إلى ما توفّره وسائل التواصل الاجتماعي والتغطية المباشرة لمُصوّري الفضائيات الموجودين في بلدان الحروب، والسينما بذلك ستكون ملزمة بنهج هذه الوثائق، لتأكيد مصداقيتها.
لو كنت مخرجاً أو كاتباً مُكلّفاً أو متطوعاً لكتابة سيناريو فيلم عن حرب غزّة الأخيرة التي تشنّها إسرائيل، فسأبتعد كثيراً عن الشروط التقليدية التي لازمت هذه الأفلام منذ بدايتها، وسأنتظر اكتمال الرؤية في هذا الموضوع. إذ غالباً ما كانت النصوص والسيناريوهات، التي تُكتب في التوقيت نفسه للحدث، قاصرة عن الإلمام بتفاصيله، ومن دون أن تمنح الكاتب والمخرج القدرة على نظرة شاملة، واتّخاذ انطباع راسخ عنه. لنا في تاريخ السينما نماذج، فـ"القبعات الخضر"، الذي كتبه وأخرجه جون واين عام 1968، عن تورّط أميركا في حرب فيتنام، مليء بالمبالغة والانحياز، والنظرة المتسرّعة لطبيعة هذا الحدث التاريخي، الذي نال تعاطفاً كبيراً مع فيتنام من الشعب الأميركي، فكان طبيعياً أن تستقبل ولايات أميركية هذا الفيلم بالطماطم والبيض الفاسد. وهذا على عكس أفلام أخرى ناقشت دوافع التورّط ونتائجه الكارثية، كـ"الفصيلة" (1986) و"مولود في الرابع من تموز" (1989) لأوليفر ستون، و"القيامة الآن" (1979) لفرنسيس فورد كوبولا، وغيرها مما أُنتج بعد سنوات على انتهاء تلك الحرب.
لكن، مع استمرار القصف الهمجي الإسرائيلي في غزّة، لا يمتلك كاتب النص توثيقاً لهذا الحدث إلاّ مراقبته، وبيان أثره الكارثي على شعبٍ، الآن ومستقبلاً، وانتظار ما توحي به الأيام المقبلة، لاختمار فكرة العمل.
لو كنت كاتب النص، فسأختار أثر حرب الإبادة على الأطفال، فالأطفال ليسوا ضحاياها الأكثر عدداً فحسب، إذ قدّرت أخبار الحرب أنّ هناك 70 بالمائة من الشهداء أطفال، بل العمل على الأطفال وهم يمارسون، بما استطاعوا عليه، نضالهم اليومي في غزّة والضفة؛ وهم يتحدّثون في وسائل التواصل الاجتماعي عمّا يعانونه. يتحدّث أحدهم عن فقدان أفراد عائلته نتيجة القصف العشوائي، ويتحدّث آخر عن "الهدنة"، خاتماً كلامه بالقول: "انتهت الهدنة، ولم نحصل على الغاز".
لو كنت كاتب النص، فسأختار هذه الثيمة المجاورة لمأساة الحرب، وسأختار الشريحة الأكثر تضرّراً منها، بينما أركز فيه على قضية وعي الطفولة في الحرب، فليس الخوف فقط ما يجمع المشاعر، بل قراءتهم البريئة للحدث ـ الحرب، وتساؤلاتهم: ما الذي يريده الأعداء؟ لماذا نحن بالذات في مرمى بنادقهم؟ لماذا تلفظ أختي أنفاسها تحت الأنقاض؟ أسئلة تتوالد من عمق الحرب ولاآدميّتها، فهذه أسئلة الطفولة التي كانت عنوان الحرب. سأهمل ما تفعله أسلحة الإسرائيليين المختلفة في مدينة، كلّ ذنبها أنّها تقاوم هذا الموت المجاني؛ وستكون للطفولة المساحة الأهم في النص السينمائي، وإن بقيت آثارها المُدمّرة خلفية لا أكثر، فالطفولة، باختصار، مستهدفة.
الحرب، في هذا النص، تبقى بروازاً سينمائياً، يُنجَز لحظة صوغ عنصر الحكاية في الخيال. ستكون الدافع القوي لتبيان الأحداث درامياً، إذ يجب أن يكون وجود الحرب واقعياً. لكنّ النص الذي سأختاره والصورة التي سأبرزها يتفوّقان على سرد تفاصيل الحرب، وعنصر الصورة. النص سيهتمّ بأمر هذه الحرب أيضاً.