ندوات مهرجان الأقصر السينمائي: حديث ودّي ورغبة في اعتزال الفن

17 فبراير 2023
ندوة محمد رمضان: تناقضٌ في أقواله ومواقفه (أمل الجمل)
+ الخط -

"شِدّ الحزام على وسطك غيره ما يفيدك، إنْ كان شيل الحمول على ضهرك بيكيدك، أهون عليك يا حر من مدة إيدك". مقطع من أغنية، انتشرت في عشرينيات القرن العشرين، ألّفها بديع خيري، ولحّنها وغنّاها سيد درويش، بدءاً من عام 1919. لم تكن أغنية فقط، بل تعبيراً عن قناعة. لكن، بعد 100 عام، أصبحت الأغنية الرائجة: "آه لو لعبت يا زهر واتبدّلت الأحوال، وركبت أول موجة في سكة الأموال". المتغيّر ليس الموسيقى، بل الإنسان الذي غنّى، وقناعته أيضاً.

هذا ردٌّ للمؤلّف الموسيقي المصري هشام نزيه على سؤال مطروح عليه في ندوة تكريمه، في الدورة الـ12 (4 ـ 9 فبراير/شباط 2023) لمهرجان الأقصر للسينما الأفريقية، استنكرت فيه طارحته تدهور الذوق المصري وانحداره، بعد أنْ غنّى المصريون مع سيد درويش ومحمد فوزي وعبد الوهاب ومحمد رشدي، وغيرهم من المبدعين.

أكّد نزيه رفضه فكرة انحدار الذوق المصري، موضحاً أنّ الموضوع لا يخصّ الموسيقى، فعدد السكّان أكثر من 120 مليون نسمة، لا يعيشون في منطقة واحدة: "من حقّنا أنْ يحضر هذا الاختلاف والتنوع في الأذواق"، مُضيفاً: "بمناسبة سيد درويش، أثناء العمل على كيرة والجن (2022، مروان حامد)، قرأنا بحثاً عن تاريخ الأغنية الإباحية، فوجدنا أنّها انتشرت عام 1920، أي في فترة قمم الموسيقى، وصعود الحركة الوطنية المصرية التي كانت ملهمة للشعوب حولنا، وكانت هناك نهضة فكرية في المستويات كلّها. مع ذلك، انتشرت الأغنية الإباحية بكلماتها الرقيعة. المختلف الآن أنّ تلك الأغنية تصل بسهولة عبر الهاتف المحمول، لكنّي لن أستسلم لفكرة أنّ الذوق انحدر، وسأظلّ أرفض ذلك، وأقاومه".

استمرت الندوة، بإدارة الصحافي جمال عبد الناصر، نحو 90 دقيقة، والحوار عذب وانسيابي بين المبدع المصري وجمهوره من مختلف الأعمار. تحدث نزيه عن مشاركته كممثل في الفرقة الموسيقية لعمرو دياب، في "آيس كريم في جليم" (1992) لخيري بشارة، مستعيداً بداية مشواره مع الموسيقى، ومُعبّراً عن اعتقاده أنّه لا يوجد إنسان في الكون لا يُولد وهو لا يحبّ الموسيقى. مع ذلك، لا يتذكّر متى، تحديداً، قرّر أنْ تكون هذه حياته. فعلاقته بها لم تنقطع قَطّ، رغم أنّ أهله رفضوا أنْ يدرسها، مُرحّبين بها كهواية فقط. درس الهندسة التي كان يحبّها، وتفوّق فيها، لكنّه قرّر عدم العمل بها. لم يدرس الموسيقى في أكاديمية أو معهد، بل علّم نفسه بنفسه مبادئها وقواعدها، وتنوعّت قراءاته (أدب وفن وتاريخ وسياسة)، فاكتسب وعياً وثقافة. يعترف بأنّ دراسة الهندسة علّمته الاعتراف بالخطأ، وعدم المكابرة. 

تحدث هشام نزيه، أيضاً، عن أول محطة مهمة في مشواره الموسيقي، المتمثّلة بالعمل مع فرقة موسيقية. كان يبلغ 13 عاماً: "حينها، لو رفضوا انضمامي إليهم، لانتهى الأمر، ربما، أو لا أحد يعلم ما الذي كان سيحصل. أعتقد أنّ هذه أهم محطة وأهم شغل في حياتي. كنتُ أعيش في بورسعيد، والفرقة تعمل في الحفلات. أعتبره أول عمل احترافي لي، لأنّي التزمت المواعيد، وعزفت ما طُلب مني، وحصلت على أجري، والناس يستمعون بسعادة. هذا مفهوم الاحتراف: الناس يعتمدون عليك، فيجدونك ملتزماً معهم".

حين سئل عن عمل حقق له الشهرة، أجاب بشكل غير متوقع: "لا أعرف الشهرة متى تحققت. لا أعرف أصلاً إذا كانت تحققت أو لا. لكني أعرف شيئاً آخر: متى أصبح المنتجون ومَنْ أعمل معهم يثقون بي. أعني بكلمة الثقة، أنّه عندما يُطلب منّي شيء محدد، بمواصفات معينة، أقترح عليهم مواصفات أخرى مختلفة. في البداية، رفض، ثم جاء وقت يقولون لي فيه: دعنا نسمع المقطوعتين، ثم وصلنا إلى مرحلة: وأنت، ماذا ترى؟ إنّها المرحلة التي أعتز بها في حياتي، والتي أصبح فيها المخرج والمنتج يطلبان مني مشاهدة الفيلم، وإخبارهما رأيي. هذا التغيير أعتز به في علاقتي الاحترافية، لأنّها مرحلة لم أحصل عليها بسهولة أبداً، بل بعد معاناة وصعوبات، وبعد رفض لوجهة نظري ودفاع عنها. لكنّي محظوظٌ، لأنه ساعدني في ذلك، أيضاً، وجود جمهور مستعد للمفاجآت الفنية، فكان يتجاوب معها".

على عكس أفكار هشام نزيه، وكيفية تفسيره الأمور، وبحثه عن القيمة الفكرية، ونظرته المتواضعة إلى ذاته رغم شهرته (ليلة الافتتاح، قال إنّه يرى نفسه وإنتاجه الفني ضئيلين، وهو يقف أمام تماثيل أجداده الفراعنة في معبد الأقصر)، وقف الممثل محمد رمضان على المسرح نفسه، قبيل تكريمه، قائلاً ـ بغرور زائد فسّره البعض بالطموح ـ إنّه قادرٌ على تقديم أعمال تُضاهي إبداع الفراعنة.

لا شكّ في أن محمد رمضان يمتلك موهبة الأداء، ولديه منطق في تصرّفاته، بما فيها تلك المثيرة للجدل، إذْ يعتبر عمله الأساسي التسلية، كما اعترف في ندوة تكريمه: "أنا ممثل. دوري أنْ أسلّي الجمهور. ليس مطلوباً مني أكثر من ذلك. لو قدّمت شيئاً إضافياً، فيه رسالة، سيكون الأمر جميلاً. لكنّه ليس دوري. لا يطلب مني أحد تقديم رسالة هادفة. هذا ليس دوري. هذا دور آخرين. لا تحمّلوني مسؤولية الآخرين. أكرّر: هدفي ومسؤوليتي التسلية".

المدهش أنّ محمد رمضان سيتحدّث، بعد ذلك، عن تنوّع أعماله التي لا تعتمد التسلية فقط. يقول إنّه لا يخاصم ضميره، ولا القيمة. كأنّ هذه "التهمة" لا تزال تؤرقه وتسبّب له عقدة، وإنْ أنكرها. حين يسأله البعض عن مكتبته السينمائية، ومتى بدأ تكوينها، فتكون فيها أعمال تدخل في "أهم مائة فيلم في تاريخ السينما المصرية"، تجده ينسى موضوع التسلية الذي طالما دافع عنه، ويعود إلى الحديث عن القيمة، وأنّه مهتم بتلك المكتبة.

سينما ودراما
التحديثات الحية

وعندما يسأل عن إثارته جدلاً على مواقع التواصل الاجتماعي، وتقديره للخسائر والمكاسب التي حقّقها جراء ذلك، يتحدّث عن أهمية التسويق له كممثل، وأنّه يؤمن بأنّ أي جلسة أو اجتماع لا يحقّق له عائداً، يعتبره بلا جدوى، مُشيراً بأصابعه الـ3 إلى تلك الإيماءة التي تعني "الفلوس". مع ذلك بقليل، يتراجع: "لا أقصد بالعائد أنْ يكون مادياً فقط".

خلاصة تصريحات محمد رمضان أنّه قال كلّ شيء، ونقيضه. حاول تجميل صورته. إنّه طموح حدّ الغرور، ويُريد كل شيء، ويرغب في أنْ يصفه الناس بأنّه "الرقم واحد"، وفي الوقت نفسه، يقولون عنه إنه متواضع، ويساعد الفقراء، كما فعل أحدهم في الندوة. تأمّل ما وراء تصرّفاته يشي بأنْ لا رسالة وهدف لديه يمكن أنْ يضحي لأجلهما. وإلا، فلماذا لا يفاجئ جمهوره بإنتاج فيلمٍ سينمائي من أمواله الخاصة، له قيمة تُدخله تاريخ السينما المصرية والعربية، بدل أنْ يُتحفنا بمشاهد لأنواع سياراته التي يمتلكها، وربما طائراته في المستقبل؟

إلى ذلك، فاجأت الممثلة هالة صدقي الجمهور، في ندوة تكريمها، بأنّها لم تعد تؤمن بالفن، وبأنّها تعمل على افتتاح مشروع تجاري (مقهى)، لأنّ الفن لم يعد يُوفّر لها الأمان المادي. هناك صفحة طُويت. يسألها أحدٌ يُريد الالتحاق بمعهد التمثيل، فتنصحه بعدم المحاولة، وهذا تنصح به أولادها، لأنّ الفن برأيها "لم يعد له مستقبل، ولا ضمان، ولا تأمين، ولا معاش".

من جهته، حاول المخرج مجدي أحمد علي، في الندوة، إقناعها بالعدول عن رأيها، مؤكّداً أنّ الصناعة تمرّ بأزمة، وهذا لا يعني الاستسلام، إذْ لا بُدّ من مواصلة المعركة، وإيصال "رسالة فنية سامية". قال إنّ تحقيق الأمان المادي للفنان يكمن في تنفيذ "حقوق الملكية الفكرية"، لأنّه مع كلّ إذاعة عمل فني، يكون هناك جزء من الدخل مُخصّص بالفنان. يذكر ورثة بليغ حمدي مثلاً الذين "يعيشون كالملوك"، من دون أنْ يغفل أن على الفنان، في حياته، أنْ يكون حكيماً في إنفاقه، وأنْ يقتطع جزءاً من الأجر المرتفع، الذي يحصل عليه، ليدخره للزمن. لكن هالة صدقي ظلّت، حتى ختام الندوة، ثابتة على قناعاتها.

المساهمون