الفتاة الشابة، بحجابها. الخجولة إذ تصعد خشبة المسرح، تتخفّف من خجلها هذا مع بدء الموسيقى، ويغادرها إذ تغني. كأنما لا حجاب ولا حُجُب إذ تغني. كأنها تتحرر فلا يبقى سوى صوتها.
نداء شرارة، وهذا اسمها. اسم المغنية التي ولدت في حي شعبي، وعندما كبرت لفّت شعرها وغطته، فما حجب عنها صوت الموسيقى ولا حال دون صوتها والغناء.
عام 2015 كانت في بدايات عشرينياتها. وقفت على مسرح برنامج "ذا فويس" واكتسحته بصوتها. وقفت لها لجنة التحكيم. وقف الجمهور ولم يتوقف عن التصفيق. قامت شيرين عبد الوهاب عن مقعدها. قام كاظم الساهر. قام صابر الرباعي. قام عاصي الحلاني.
لقد فازت باللقب. لقد تحقق الحلم، لكن ماذا عن اليوم التالي؟ ماذا ستفعل عندما تعود الفتاة المحجبة، الخجولة، صغيرة السن، إلى عمّان؟ هل ستحترف الغناء في بلاد لا تعرف إلا الغناء الشعبي والدبكة في الأعراس والاحتفالات الوطنية، ولم يسبق لها أن عرفت مغنياً بالمعنى الاحترافي ما لم يكن موظفاً في مؤسسة الإذاعة والتلفزيون، أو ما لم يكن صورة عن مطرب هناك، في القاهرة أو بيروت: فإذا كان هناك عبد الحليم حافظ فهنا فيصل حلمي يتجول في شوارع عمّان ويتوقف عند سينما بسمان، بشعر مصفف جيداً شبيه بشعر عبد الحليم، علّ أحدهم يستوقفه ويسأله ألست المطرب فلاناً، لكنّ أحداً لا يفعلها، وقد كان كاتب المقال جزءاً من المشهد آنذاك، طفلاً يتوقف وينظر إلى المطرب الذي لا يعرفه أحد في شارع بسمان، فماذا فعل؟ نزل الدرجات وتوقف عند بائع الأشرطة وابتاع شريط أغانيه، ومضى مبتعداً.
عادت نداء شرارة إلى عمّان التي لا يعرف فيها الفنانون، وبعضهم يتمتع بموهبة كبيرة، وكيلَ أعمال يتولى إنتاج صورتهم لدى الجمهور، والتعاقد باسمهم والترويج لهم، وبدا كأنها تبخرّت. حققت حلمها وكفى، فالفنادق الكبرى التي تقيم حفلات غنائية لا تغامر بمطرب أو مطربة أردنية، وإذا فعلت فليس بمغنية محجبة، ولماذا تفعل أصلاً واستضافة مطرب أو مطربة عربية ذائعة الصيت يدر على الفندق ما يريده من أرباح؟ ثم إنها بلاد صغيرة بلا إرث غنائي ومهرجاناتها متعثرة، وكثيرها محض مناطقي تستند إلى فرقة للدبكة وكفى الله المؤمنين القتال. والحال هذه ربما تتلقى الفائزة بلقب "ذا فويس" عرضاً للغناء في حفل زفاف، وعلى الأحلام أن تتنحى جانباً ما لم تنتقل الشابة إلى القاهرة فربما تجد فرصتها هناك.
نداء شرارة لم تفعل. لا تستطيع الشابة المحجبة بصوتها الخرافي أن تغامر وحدها، ولن تفعل قبل أن تصبح شهرتها فاقعة، واسمها وحده كافياً لجذب الجمهور، العابر للحدود. فالصوت وحده لا يكفي، بل لا بد لـ"الصناعة" أن تستكمل شروطها، وهي التي جعلت من محمد رمضان مطرباً عندما شاء، فيحيي الحفلات، ويتدافع الجمهور في بلادها لحضور حفلته ويدفعون ما بين 200 دولار و400 دولار لمشاهدته وهو يدخل المسرح بـ "فيراري" فاخرة، وليذهب الصوت الجميل إلى الجحيم.
لا شيء يغيّر الصورة. لا شيء سوى توفر الصناعة الثقيلة. جاءتها الفرصة الذهبية لكن من دون أن تغيّر الشروط التي تجعلها "نجمة" و"بيّاعة" بغض النظر عن الموهبة. هل ثمة أحد يتساءل ما إذا كان صوت هيفا وهبي جميلاً؟!
وجاءتها الفرصة. استضافتها ملكة البلاد المنفتحة على العالم والعارفة لمعنى أن تنتج هويتك بأدواتك وأن تعصرنها، في حفل الحناء الخاصة بمن ستصبح عقيلة نجلها، ولي عهد البلاد الشاب، ولاحقاً استضافتها في حفل الزفاف بحضور شخصيات بارزة من العالم لا تجتمع إلا نادراً، في حفل كالذي أقامه الملك والملكة لزفاف نجلهما الوسيم. وغنّت نداء شرارة. غنّت بصوتها الخرافي. وعندما انتهت تقدمت منها الملكة واحتضنتها ثم قدّمتها لتصافح الملك، فماذا تريد أكثر؟ ذلك حلم أي مطرب عربي، لكن الصناعة شيء آخر: يستضاف وائل كفوري، وهو نجم كبير، في بلادها قبل أيام، فيصل سعر تذكرة حفلته إلى نحو 600 دولار، أما تذكرة حفل نداء شرارة فنحو 25 دولاراً.
ثمة حجاب من نوع آخر يا نداء. شروط صناعة النجم يا ابنتي، وبلادنا لا نجوم فيها.