نجيب سرور... أفكار جنونية في دفتر العالم

04 يونيو 2022
تخلّى سرور عن كلية الحقوق ليدرس المسرح (فيسبوك)
+ الخط -

في مشاهد وجيزة، احتفظت ذاكرة السينما بصورة الممثل نجيب سرور (1932 - 1978) أمام الكاميرا، حين كان يؤدي بدور ابن العمدة في فيلم "الحلوة عزيزة" (1969) من إخراج حسن الإمام. كما تحتفظ الإذاعة المصرية بصوته في عدد من المسلسلات الإذاعية، مثل "التمساح" إخراج أمين بسيوني، و"ست الملك" إخراج كامل يوسف. هذه اللقطات المسجلة النادرة هي بقية قليلة من أعمال أخرى شارك فيها سرور ممثلاً، لأن معظمها كان على خشبة المسرح، ليس أمام الكاميرا.

ولد نجيب سرور في 1 يونيو/حزيران 1932، في قرية أخطاب من أعمال محافظة الدقهلية، وأحب المسرح مبكراً، لدرجة أنه ترك كلية الحقوق وهو في السنة النهائية، ليلتحق بمعهد التمثيل (المعهد العالي للفنون المسرحية). وبعد تخرجه سنة 1956، انضم إلى "المسرح الشعبي" التابع لمصلحة الفنون، ليشارك من خلاله في التأليف والإخراج والتمثيل. وفي 1958، سافر في بعثة إلى الاتحاد السوفييتي لدراسة المسرح، ثم هرب إلى المجر بعد وشاية تعرض لها من بعض زملائه في البعثة. وفي 1964 عاد إلى مصر ليكون أحد أعلام المسرح المصري مؤلفاً ومخرجاً.

كان سرور صديقاً حميماً للفنان كرم مطاوع منذ كان زميلاً له في معهد التمثيل. وعندما تولى مطاوع إدارة المعهد، عيّن سرور مدرساً في المعهد 1965، لكن فُصل سرور من وظيفته بعد عامين فقط، بسبب القلق الذي سببته آراؤه الحادة وأعماله المسرحية، وصولاً إلى إيداعه مستشفى الأمراض العقلية في 1969. في موسكو تزوج من طالبة روسية تدعى ألكسندرا كورساكوفا، وأنجب منها ولدين: الأول هو شهدي الذي سجن في مصر بسبب نشر بعض قصائد أبيه، ثم رحل في منفاه في الهند سنة 2019، والثاني هو فريد الذي كان يعيش في روسيا مع والدته التي رحلت هي الأخرى في يناير/كانون الثاني 2022. وكان سرور قد تزوج من الممثلة سميرة محسن، وسرعان ما انفصلا.

أعماله وفلسفته

 تمثلت أهم أعمال نجيب سرور المسرحية في "ياسين وبهية" التي كتبها سنة 1964، أثناء وجوده في بودابست. وبعد عودته إلى القاهرة، أخرجها كرم مطاوع. وكذلك مسرحية "آه يا ليل يا قمر" (1966) التي أخرجها جلال الشرقاوي لأول مرة، ثم أعيد تقديمها بكثافة على مسارح الأقاليم في مصر بعد ثورة 25 يناير. بدورها، ترى الناقدة لطيفة الزيات، أن هذه المسرحية اندرجت، كمعلم من معالم الطريق في المسرح المصري المعاصر. وهكذا توالت أعمال سرور. في عام 1971، ألف مسرحية "الذباب الأزرق"، في أعقاب أحداث أيلول الأسود، وقد أزعجت الحكومة الأردنية، فمنعت السلطات المصرية عرضها في القاهرة. وفي 1974، كتب مسرحية "منين أجيب ناس"، ثم كتب مسرحية "النجمة أم الديل" التي منعت أيضاً من النشر والعرض وقتها، و"أفكار جنونية في دفتر هاملت".

وله كتاباته شعرية ونقدية، مثل "بروتوكولات حكماء ريش"، وهي أشعار ومشاهد مسرحية، و"رباعيات" وديوان "الطوفان الكبير" وديوان "فارس آخر زمن"، و"لزوم ما يلزم وغيرها"، وقد جمعت أعماله الكاملة ونشرت في القاهرة سنة 1997.

خلال مسيرته الفنية، اصطدم سرور وأفكاره بالواقع الثقافي والسياسي المضطرب، الذي جعله يعيش أزمة مأساوية، حولت حياته إلى مسرحية تراجيدية كبرى. وفي تلك الأثناء، ألف مجموعة قصائد سياسية مليئة بالسباب والشتائم المقذعة، وكان من ضحايا هذه القصائد ابنه شهدي الذي حكم عليه بالسجن بسبب نشرها.

نجوم وفن
التحديثات الحية

يختصر الكاتب حسام السعيد عامر هذه المأساة في كتابه "ثلة من أسماء الإجرام"، بقوله إن نجيب سرور كان عصياً على التدجين، وقد فشلت الأجهزة السيادية في السيطرة على لسانه وآرائه التي كان يتشدق بها عن سيطرة الماسونيين على مصر. وبتوجيه من سادة مصر وقتها، دشن النقاد حملة هجوم على مسرحياته، أظهروا تدني مستواها وابتذالها، وقالوا إن الشعر فيها يمثل عائقاً بين المسرحية والمشاهد المتلقي، ومن ثم أحكم حصار حديدي على نجيب سرور لم ينفذ منه قط، وأغلقت في وجهه أبواب العمل؛ إذ طُرد من التدريس في معهد الفنون المسرحية، ومنعت مسرحياته من العرض، فأغرق نفسه في شرب الكحول، بعد أن اضطر للتسول في شوارع القاهرة، وألقي القبض عليه وأودع في مستشفى العباسية باعتباره مجنوناً مصاباً بالفصام.

وفي النهاية، رحل نجيب سرور بسبب فشل وظائف الكبد، مشرداً، عاطلاً ممنوعاً عن العمل، عاجزاً عن الإنفاق على أسرته.

الثلاثية الثورية

من منطلق الأغنية الشعبية، كتب سرور معظم أعماله المسرحية، ولا سيَّما ثلاثيته: "ياسين وبهية" و"آه يا ليل يا قمر"، و"قولوا لعين الشمس"، إذ استطاع فيها أن يحمل فيها أفكاره العصرية وآراءه السياسية. يرى الناقد المسرحي سيد علي إسماعيل، أن سرور أخذ في مسرحية "ياسين وبهية" الجوهر العام للموال، ثمَّ تخلَّى عن الإطار المكاني الذي نشأ فيه الموال؛ وهو الصعيد، واستبدل به الإطار الآخر، وهو الريف، وعلى وجه التحديد قرية بهوت، وهي إحدى قرى مصر حيث دارت أعنف المعارك قبل ثورة 1952، وأصبحت هذه القرية رمزاً للصراع ضدَّ الطبقية في مصر. بذلك، استطاع سرور أن يحقق التلاؤم بين الأصل الشعبي للأغنية وبين قضايا العصر، إذ يتعرض لقضايا الفلاحين، والصراع على الأرض، ومحاربة المستعمر الذي يريد استغلال الأيدي العاملة في المصانع. ومن هنا عاد إلى الأغنية الشعبية من خلال المشكلة الاقتصادية التي اجتاحت البلاد، وأعجزت "ياسين" عن الزواج من "بهية".

أبرزت هذه الثلاثية قضايا الشعب وهمومه من وجه نظر الشعب نفسه. ففي مسرحية "ياسين وبهية"، بدأت المأساة بوصف عهد الظلم والاضطهاد في زمن الإقطاع، أمَّا مسرحية "آه يا ليل يا قمر"، فقد عبَّرت عن العصر الذي حاولت فيه مصر أن تنهض وتقاوم الاحتلال، بينما يختتم المؤلف ثلاثيته بمسرحية "قولوا لعين الشمس" التي عبّر من خلالها عن قدرة مصر على معرفة طريقها إلى الثورة.

يقول الناقد فاروق عبد القادر: "كان نجيب سرور شيئاً مختلفاً، كان عاصفة اندفعت إلى قلب الحياة المسرحية والثقافية منذ عاد بعد رحلته الطويلة في موسكو وبودابست، وبكل ما حمل في عقله وقلبه من خير وشر. إنني أكتب اليوم هذه السطور بعد موته الفاجع الذي كان يعرفه ويسعى إليه، وأحاول النظر فيما قدمه للمسرح فأجدني لا أستطيع أن أبعد عن عقلي وقلبي وجه نجيب المعذب، ولو صح أن نفصل ولو للحظة بين الكاتب وما يكتب، فلن يصح هذا أبداً بالنسبة لما كتبه نجيب سرور. لقد كان يعبر عما في ذاته بالكلمات والسلوك معاً، ولعل تعبيره بالسلوك كان أفصح وأكثر دلالة من تعبيره بالكلمات، بل لعل سلوكه هو ما صنع كثيراً من الضجيج حول قيمة كلماته".

المساهمون