ما إنْ أُعلن عن انتقاء "علّي صوتك"، جديد نبيل عيّوش (1969)، في لائحة الأفلام الـ24، المُتبارية على "السعفة الذهبية"، وجوائز المسابقة الرسمية للدورة الـ74 (6 ـ 17 يوليو/ تموز 2021) لمهرجان "كانّ" السينمائي، حتّى اشتعل جدل محتدم ـ ومحمود في بعض أبعاده ـ في الوسط السينمائي المغربي، أفضى إلى تقاطب بين رأيين متناقضين في تطرّفهما: مُشيد مُتحمّس، أكثر من اللازم، يُهلّل بالحدث التاريخي الفارق، وبالفتح المبين، الذي يُنبئ بولوج السينما المغربية نادي "دول السينما الكبرى" المغلق؛ ومُهوِّنٌ، يُبخس الخبر حقّه من الاحتفاء، مُستعيناً بنظرية "الغرب الذي يرفع عن قصد"، شأن مروّجي نظرة معينة، مُعتبراً اختياره أحد أرفع ما أنتجته صفوة مبدعي السينما في العالم بأسره، "مُجرّد دليل جديد على القدرة المعروفة للمخرج على تسويق أفلامه، وجنوحه إلى اختيار مواضيع وأنماطَ تناولٍ، تلقى إقبالاً في الضفّة المقابلة للمتوسّط، وتُلبّي شهيّتها للإكزوتيكية".
لا أحد يُمكن أنْ يُنكر أنّ "آل عيّوش" (نبيل، وشقيقه الأصغر، المخرج المتمّرد بطبعه، هشام، وحتّى والدهما نور الدين، المتمرّس في عالم الإشهار، ومُقتحم الإخراج السينمائي بفيلمٍ قصير أول مع بلوغه 71 عاماً، في 2017) يمتازون بشخصية قوية، ومَلَكة (صقلوها بفضل احتراف الإشهار) في عدم ترك الرأي العام غير مبالٍ بمشاريعهم، وفعل كلّ شيءٍ لتحفيزه على التفاعل معها، رفضاً أو قبولاً، لا يهمّ.
صحيحٌ أنّ مُشاركة فيلمٍ مغربيّ في المسابقة الرسمية لمهرجان "كانّ" حدثٌ يُعدّ استثنائياً، إلى حدّ ما، بمقاييس السينما المغربية، باعتبار العدد القليل من الأفلام التي بلغت المسابقة الرسمية لأحد المهرجانات الثلاثة الكبرى: "شاطئ الأطفال الضائعين" للجيلالي فرحاتي في "مهرجان فينيسيا 1991"، و"أرواح وإيقاعات" للقيدوم عبد العزيز الرمضاني في "كانّ 1962". حتّى إذا أخذنا في الحسبان، جدلاً، المُشاركات الرمزية لمخرجين غير مغاربة، لكنْ باسم المغرب، وأبرزها تتويج أورسون ويلز بالسعفة، تحت ألوان العلم المغربي، عن "عطيل" (1952)، فذلك لا يكفي للخروج من نطاق الاستثناء، الذي يؤكّد قاعدة الغياب عن المسابقات الرسمية للمواعيد الكبرى.
ذلك أنّ الحديث عن سينما في طور الإقلاع يتطلّب تواتر مُشاركات منتظمة في أعوامٍ طويلة، نسبياً، في جُلّ المهرجانات الكبرى، وتتويج أسماء عدّة ببعض جوائزها. أسماء تُفصح عن تنوّعٍ وزخمٍ وتيارات، تعكس جيلاً استثنائياً من المُبدعين، وربما تخلق مدرسة، كما حدث في العقود الأخيرة، مع سينما ذات مُقوّمات صناعية متينة (كوريا الجنوبية مثلاً)، أو أخرى تعرف مُعيقات هيكلية وإدارية، شبيهة بالحالة المغربية، كالسينما الرومانية.
كلّ شيءٍ يدلّ على أنّ نبيل عيّوش حالة فردية، تنتمي إلى نطاق الاستثناء أكثر من القاعدة. بدءاً من مساره، والجدل الكبير الذي يُرافق جُلّ اختياراته، في المغرب، ويمتدّ إلى خارجه، كالجدل الذي خلقه مشهد "قاطني المقابر"، في "كلّ ما تريده لولا" (2008) في مصر. بالإضافة إلى الجرأة، التي طبعت ـ في شكلها السياسي ـ باكورته "مكتوب" (1997)، حول ويلات التعسّف والاعتقال السياسي، في زمنٍ لم تتحرّر فيه كلّ الألسن من عقدة خوفها.
السمة الثانية، البارزة في سينماه، طموحٌ لا يتوانى عن السعي إلى أكبر انتشار كوني مُمكن. تبدّى هذا، بوضوح، في النَفَس الإنساني القوي لفيلمه الطويل الثاني، "علي زاوا" (2000)، حول أطفال الشوارع، الذي حقّق نجاحاً دولياً في المهرجانات، وإقبالاً كبيراً في الصالات المغربية. إنّه الفيلم العربي الثاني، بعد "باب الحديد" (1958) للمصري يوسف شاهين، الذي يلج قائمة "1001 فيلم ينبغي أن تشاهدها قبل أنْ تموت". هذا الفيلم شاهده الآلاف في العالم، وحقّق صيت "الفيلم النّسك" لدى غالبيتهم.
أفلامه التالية أكّدت منحى الطموح الكوني. انبرى إلى مُقاربة القضية الفلسطينية بمنظور شخصاني، في وثائقيّه الوحيد "أرضي" (2011)، قبل تحقيقه "يا خيل الله" (2012)، أحد أجمل أعماله وأهمّها، الذي يقع في نقطة الارتكاز، وربما النضج، بين مختلف اهتماماته، والحساسيات المميّزة لأسلوبه، ومدى توفّقه في التحكّم بها. فيه، تحضر لمسة تخييل، انطلاقاً من حدثٍ واقعي، يتمثّل في التفجيرات الإرهابية في الدار البيضاء (13 مايو/ أيار 2003)، وشخصيات مُهمّشة، يجسّدها ممثلون غير محترفين، عاشوا أجواء مُشابهة للقصّة، بالإضافة إلى موضوع حارق، اجتمع فيه الشأن المحلي بالكوني، نظراً إلى عولمة الإرهاب، في أعقاب "تفجيرات 11/ 9" (11 سبتمبر/ أيلول 2001، في الولايات المتحدّة الأميركية).
بدوره، حَظِي "يا خيل الله" بصدى بعيد، وعُرض في أرقى الجامعات الغربية، كوثيقة مرئية ـ لا محيد عنها ـ لفهم جذور الإرهاب، الثقافية والاجتماعية والاقتصادية، بعيداً عن قوالب الإعلام، وطرقه المختصرة. قبل أنْ يسقط المخرج نفسه (يا لسخرية القدر) في دوّامة الأحكام المسبقة، والتشهير الإعلامي، وحملات الحقد والكراهية على وسائل التواصل الاجتماعي، بعد تسرب مقاطع من "الزين لي فيك" (2015)، الذي يتناول ـ بمستوى توفّق متذبذب ـ حياة فتيات الليل في مراكش، من دون قفّازات العفة المصطنعة، التي تُفضِّل الإنكار المرضي لمظاهر البؤس الاجتماعي، عوض مجابهتها.
دوّامة إعلامية غير مسبوقة، وجهنمية، أفضت إلى منع الفيلم ـ المستمر إلى اليوم، من دون مُشاهدته رسمياً ـ وأثّرت في شكل ونبرة فيلمه ما قبل الأخير، "غزية" (2017) الذي خرج، على غير العادة، مُفكّكاً وعائماً في أجواء إكزوتيكية، ومناخ مُظاهرات شبه كاريكاتورية، مُنفصلة عن واقع الشخصيات.
الحكم على الأفلام ومُبدعيها، بمعيار المهرجانات وحده، لا يستقيم. كَمْ من مُخرجٍ موهوب مضى، من دون أنْ يلقى الاهتمام والاحتفاء اللازمين بأفلامه خارج بلده الأصلي. ولوج المسابقة الرسمية لمهرجانٍ بحجم "كانّ" لا يُشكّل، بأيّ وجه، ضمانة لفيلمٍ جيّد. ليست الأمثلة عن هذا ما ينقص في تاريخ المهرجان. فالثابت، في الأعوام الأخيرة، كامنٌ في أنّ البحث عن التفرّد والأصوات المجدّدة يقتضي، في أغلب الأحيان، التنقيب في الأقسام الموازية ("نظرة ما"، "أسبوعا المخرجين"، "أسبوع النقّاد"، ACID)، حيث حضر فوزي بن السعيدي وهشام العسري وليلى الكيلاني ونبيل عيوش نفسه، في العقدين الأخيرين.
لكنّ أهمية هذا الانتقاء تكمن في أنّ الفيلم المغربي، المُقترب من المستويات والمعايير المحدّدة لـ"كانّ"، سيجد أمامه، في المستقبل القريب، باباً مُوارباً قليلاً، بدلاً من أنْ يكون مُوصداً من منطلق الغرابة، كما كان في الماضي.
بانتظار أنْ "نحكم على الأدلّة الملموسة"، كما يقول الفرنسيون، لنجعل هذه المناسبة فرصةً لإعادة اكتشاف مسار مخرج موهوب ومجتهد، يدعى نبيل عيوش، ونقرأ أفلامه بتأمّل َوتأنٍّ، بعيداً عن ضوضاء الاتّهامات الجاهزة، وصخب الجدالات العقيمة.