بدتْ ناهيد حسن زاده سعيدة بعرض فيلمها "المجد الصامت"، أمام جمهور باريسي. ذاك أنّه لم يعرض في إيران، "للأسف"، وهي متشوّقة لمعرفة ردّ فعل الجمهور. نوّهتْ بما تراه مهماً: "الشخصية الرئيسية فيه امرأة، لكنّ دورها مختلف عن نساء السينما الإيرانية"، مؤكّدة بقولها إنّ "الفيلم رحلةٌ داخليةٌ لامرأة في مجتمع وثقافة محدّدين".
حقّقت حسن زاده "وقتٌ آخر"، أول فيلم لها، عام 2016. تناولت فيه ثقل المجتمع وأعباء التقاليد على شخصيات تعيش في دوّامة، لا سيما المرأة. رغبت، في احتجاجات 2009 التي تلت انتخابات محمود أحمدي نجاد لولاية ثانية، في فيلمٍ وثائقي عن حركة النساء حينها، وتظاهراتهنّ للمطالبة بحقوقهنّ. لكنْ، لم يتسنّ لها ذلك. قرّرت، في فيلمها الروائي الأول، عبر الشخصية الرئيسية، التعبير عن هذه الحركة، وعن تمرّد النساء. بطلتها تطالب بحقوقها، لكنْ ليس بأسلوب فجّ، كما تعبر المخرجة: تريد التغيير بشجاعة، من دون التخلّي عن حيائها وأدبها.
بطلاتها يبدون صورة عنها. في فيلمها الثاني "المجد الصامت" (2022)، تتمحور الفكرة الرئيسية والأهم بالنسبة إليها حول التعهد الإنساني والوجودي. فكرة التزام الإنسان تجاه ما يحيط به، واتخاذه موقفاً واضحاً وصريحاً من أي خلاف سياسيّ أو اجتماعيّ أو ديني، فيتبنّاه بإصرار وثبات، ويعبّر عن رأيه باتباع منهج فكريّ في نتاجه لا يشذّ عنه. على الإنسان، كبطلتها في الفيلم، أنْ يتحرّك، ويعمل على تحريك مصيره.
هذا ما فعلته روحان (35 عاماً)، التي تقبل الزواج من معلّم مدرسة أصبح، بعد التقاعد، حارس ضريح إمام زاده في القرية. حين تكون شاهدة على موت صبي، أتى ليقيم في المقام انتظاراً لمعجزة تشفيه من مرض عضال، تبدأ قناعاتها بالتغيّر. منذ تلك اللحظة، تصبح هي وزوجها غير مرغوب فيهما من أهل القرية لحراسة الضريح. هنا أيضاً ثقلٌ تفرضه التقاليد على الناس. تقاليد ترى المخرجة أنّها مدعومة من النظام لأنّها تخدم مصلحته.
ناهيد حسن زاده مطّلعة جيداً على الأوساط الشعبية التي تناولتها في فيلمها، تلك التي تلجأ إلى الأضرحة أملاً بمعجزة: شفاء مريض، أو خروج من أزمة، وما شابه. قبل تحوّلها إلى السينما ودراستها، عملت قابلة قانونية في أوساط فقيرة في جنوب طهران، وهي تعرف جيداً تلك الفئة التي أبرزتها في الفيلم. تميل إلى التأمل في الطبيعة، كبطلتها التي استوحت شخصيتها من الأدب الفارسي. فروحان امرأة بسيطة، تنظر إلى العالم نظرة صوفية، وتسخر من التقاليد. تجتاز التحديات، وتحصل على المعرفة الذاتية الداخلية، كأنّها رحلة تمرّ بثلاث مراحل، يجسدها أولاً ماهي، الزوج الذي يمثّل لها العلم والإيمان، ثم يونس الطفل، ومرحلة الظلمات والطريق الخطأ في الانكفاء في ظلمة المقام، لتصل في النهاية إلى المعرفة الوجدانية.
عرض الفيلم في مهرجان سينما/سينمات إيران، المُقام في باريس بين 14 و24 يونيو/ حزيران 2023، بشعار "امرأة، سينما، حرية"، تضامناً مع احتجاجات المرأة في إيران، المطالبة بعدم فرض الحجاب.
ما دافعك إلى اختيار موضوع كهذا، صعبٌ ومعقّد وشائك؟
لم أبحث عن الموضوع، بل الموضوع جاء إليّ. كان قوياً، إلى درجة أنّه ملأني وغمرني، بل احتلّني، حتى بات لديّ إحساس أنّي خاضعة له. ترك أثره فيّ. حين انتهيت، وأمسيتُ على مسافة منه، اكتشفت كم أنه يمثّل وجهة نظري في الحياة.
في صغري، قبل دخولي المدرسة، كنت أفكر في الله، وأتأمّل السماء، وأتخيّل كيف يمكنني الوصول إليها. أبحث عن الله كأنّه موجود، وعليّ أنا أنْ أعثر عليه. سألت أمي: "أين منزل الله؟"، فردّت: "هناك، خلف الجبال". هذه الروحانية رافقتني دائماً. وبما أنّنا في إيران، وتحت تأثير التربية الدينية في المدرسة، ظلّت هذه الأفكار تراودني. حين بدأت دراسة السينما، كانت التوراة القديمة أول كتاب أقرأه. لا يمكن فهم فنون الغرب وآدابه من دون قراءته، وبابل خاصة. كنت أقرأ القرآن والأدب الفارسي أيضاً. في النهاية، تحوّلت إلى باحثة في الخالق لغرضٍ شخصي، ليس للعمل والسينما. لكنّي كنت أعرف أنّه سيكون موضوع أول فيلم لي. هناك أسباب مادية جعلتني أتوجه إلى نوع آخر. هكذا حقّقت "وقت آخر" لمساعدتي على الاستمرار. فيلمي الثاني هذا نتيجة سفر داخلي روحاني، نداء جوّاني. كان عليّ التخلص من ثقل هذه المهمة.
موقنةٌ بأنّ على المُشاهد معرفة أدبيات إيران، والعرفان الإيراني، لإدراك أشياء. أضيف أنّي أعشق هذا الفيلم. إنّه جزء منّي، أردت إعلانه للجمهور. (تضحك) أعدك أنّي لنْ أطيل في إجاباتي المقبلة، كي لا أتُعب المترجمة.
لكنّ هذا يناسبني تماماً. روحان، الشخصية الرئيسية، امرأة. دورها مختلف عما نراه عادة في السينما الإيرانية. أنت أكّدت ذلك أيضاً في لقاء الجمهور قبل عرض الفيلم. لماذا أردت التنويه بهذا؟ كيف ترين صورة المرأة الإيرانية في السينما؟
صورة المرأة في السينما الإيرانية لا تعجبني إطلاقاً. لديّ انتقاد حادّ تجاهها. بعد الثورة، تبدو الصورة مدروسة ومُتحكَّم بها، لتعبّر عن وجهة نظر محافِظة. بقيت هناك أدوار نادرة تمثّل المرأة الإيرانية حقّاً، عمل عليها بهرام بيضائي، المخرج الذي يستوحي الأدب الفارسي. حوّلَ شخصية البطل الذكر، العارف والقادر في الأدب، إلى امرأة. كان الوحيد الذي قاوم حتى النهاية، وقدّم صورة للمرأة الإيرانية، نجدها في أعماله تبحث دائماً عن هويتها. المرأة تجد نفسها في أفلامه، بينما الصورة التي يقدّمها المخرجون الآخرون مُراقَبة ومُسيَطر عليها من وزارة الثقافة والإرشاد الإسلامي. لا حقّ لها بالتمرّد، وإنْ أرادت تقدر على ذلك، شرط أنْ يُغلق الملف في النهاية كأنّ شيئاً لم يكن.
هؤلاء الإيديولوجيون مفصولون عمّا نعيش. يعشقون تقديم المرأة على نحو مغاير للواقع. المرأة المستسلمة والخاضعة والراضية بمصيرها، والنجمة التي تمثّل دور الضحية، وتعطي الدروس لتحتَمل واقعها. هذه السياسة في إيران، وخاصة في السينما، منذ 20 عاماً، رغم الاحتجاج عليها. هم خانوا صورة المرأة. والأفلام الأكثر مبيعاً، في السنوات العشر الأخيرة، تُقدّم هذه الصورة. أصبحت أكثر كارثية بعد احتجاجات 2009. يعطون هذا الدور لنجمات شهيرات، كي يظنّ الناس أنّها النموذج الذي عليهم اتباعه. بدايةً، كان يُغضبني الأمر، ثم أدركت، شيئاً فشيئاً، أنّها أمور مُقرّرة مُسبقاً. السينما الرسمية الإيرانية، بالنسبة إليّ، أيديولوجية بعيدة عن المدنيّة والمواطن في المجتمع. هذا أعتبره غير أخلاقيّ.
لكن، ألا تعبّر هذه الصورة أيضاً عن نساء من الواقع الإيراني؟ صادفتُ كثيرات منهنّ.
طبعاً. بإمكاننا إظهارهنّ، لكنْ ليس فقط كما يحصل. في الوزارة، يغيّرون نهاية الأفلام لتتواءم مع مفاهيمهم. أحكي عن هذا التحكّم. يريدون لهذه الصورة أنْ تترسّخ في لاوعي الشعب. أسعى إلى تمثيل الجزء المضيء من الصورة، الذي يمكنه تحويل المجتمع. إنْ حكمنا على هذا الجزء بعدم الظهور، لن يبقى شيء. النظام لا يتوقف عن القول إنّ لدينا مخرجات كثيرات. لكنّ النساء اللواتي يُقرّرن مصيرهن لا وجود لهنّ. الساعون إلى صورة أخرى مهمّشون تماماً في السينما الرسمية. لا تعطى لنا تصاريح عمل، ويبقى من لا يتبع طريقهم مجهولاً في وطنه.
حتى المشاهير لا يمكنهم عمل ما يريدون؟ هناك أفلام مغايرة أحياناً لهذه الصورة.
لم ألحظ اختلافهم. ما أقرأه من تحليل ونقد للأفلام يعطيني إيحاء بأنّهم جميعاً سائرون في التوجّه الأيديولوجي، الذي تفرضه الدولة. يمكنني القول إنّهم هم بالذات من يقومون بذلك، لأنّ شهرتهم آتية من دعم النظام لهم، ولو لم يكن الأمر على هذا النحو، لما سُمح لهم بالتصوير، ولما توفّر لهم المجال للحصول على التمويل، وإرسال الأفلام إلى الخارج.
كيف عملتِ على السيناريو؟ قلتِ إنّك تفكرين فيه منذ زمن طويل؟
عادة، يقترب تفكيري أولاً من الشخصية الرئيسية. أحاول، قبل بدء الكتابة، التعمّق فيها، والحفر بحثاً عن مواصفاتها، حتى تنكشف لي. بداية، لا ألجأ إلى كتابة القصة، ثمّ أتحول إلى تطوير الشخصيات. حين أبدأ كتابة السيناريو، أركز عليه، وأبعد تماماً عن تفكيري كل ما ليس له علاقة به. قبل الكتابة، زرتُ مقامات عدّة، ولي من طفولتي ذكريات كثيرة عن طقوس الزواج في الحفلات التي كنت أحضرها. أيضاً، بدأت القراءة عن التصوّف ورموزه، كمؤلّفات البسطامي والحلّاج.
في الفيلم، مشاهد عدّة عن "النور" بمعناه الذي يمثّل ضوءاً داخلياً. في مشهد البداية، حين تقول القارئة "النور لا نهاية له لا قبل ولا بعد"، مأخوذ من أدبنا وميثولوجيتنا. مشهد آخر: يقرأ رجل عند الضريح آيات من سورة النور من القرآن. الله نور لا ينطفئ أبداً، ونور الله منتشر في العالم. لكنّ المقام مظلم، ولا يوجد فيه نور. حين عملت على توليف الفيلم، لمست فيه هذا التكريم لمفهوم النور في العرفان الإيراني، وسرّني ذلك.
هذا نوع من سينما مستقلّة لا يحظى بالتمويل بسهولة. كيف وجدت تمويلاً؟
يصعب إيجاد تمويل إيراني لفيلمٍ كهذا. مجدّداً، ساهمت المنتجة الإيرانية البلجيكية فري ملك مدني فيه. صادفتنا صعوبات منذ بدء التصوير عام 2019، ومع تفشّي كورونا عام 2020، تضاعفت الميزانية.
ألا تخشين ردود فعل سلبية إزاء ما قدّمتِه عن تعلّق الناس بالوهم والإيمان بالمقامات ومعجزاتها التي لا تأتي، ونحن نعرف كثرة عدد هذه المقامات، التي يرتادها الناس في إيران، وغيرها؟
لم أهاجم أحداً في الفيلم. كلّ ما رغبتُ في إظهاره كامنٌ في بحث امراة عن المعرفة. عرضته على من حولي، والنساء اللواتي شاهدنه أحببنه كثيراً، وقلن إنّهن كنّ سيتّبعن الطريق نفسها لروحان.
أعلم أنّ الطبقات الشعبية تعتقد بهذا، ولا أعرف كيف سيكون ردّ الفعل أمام جمهور كبير. أثار فيلمي الأول "وقت آخر"، ردود فعل سلبية، لأنّ بعض الجمهور حكم أنّه كان على الأبّ قتل ابنته التي حملت من دون زواج.
أودّ معرفة رأيك في السينما الإيرانية حالياً. ماذا يجري في الداخل؟
هناك رقابة عليها أكثر من السابق. كلّ الأفلام ذات الإنتاج الضخم مدعومة، بالضرورة، من الدولة. أجواء هذه السينما مخادعة. الناس وضعهم سيئ. لديهم إحساس بأنّهم فعلوا الكثير لإسماع صوتهم لكلّ العالم. لكنْ، بسبب انتهازية دول غربية ومنافعها، انطفأ صوتهم مجدّداً.
لسوء الحظّ، أشعر أنّنا ضائعون تماماً. كلّما حاولنا التقدّم إلى مجتمع مدني، يصبج دربنا أشقّ وأكثر عذاباً. نُحمّس أنفسنا ونُكمل ولا نستسلم. لكنّ الشعور بأنّ الأمّة بأكملها وحيدة، ليس كشعور فرد واحد بالوحدة. هذا منتشر لدى الجميع. أظنّ أنّنا نجهد دائماً لنمنح أنفسنا الأمل والطاقة، كي نصرخ برغبتنا في الحرية. باتت الرغبة في الانتحار منتشرة جداً في الجيل الجديد. كلّ هذه الدماء التي أُهرقت ذهبت هدراً. لم نحصل على شيء. لا نتيجة ملموسة (بكاء).