صيغت فرضيات وتكهّنات متضاربة، منذ إعلان شركة "آبل" عن إنتاج "نابليون" (2023) لريدلي سكوت. بعد عامين ونصف العام من الدعاية، لا يستطيع المُشاهد الدخول بذهنٍ خالٍ، والجلوس أمام شاشة كبيرة، لمتابعة فيلم كلَّف 200 مليون دولار أميركي.
إليكم الفرضية المؤطّرة للمُشاهدة: كيف سيظهر خواكين فينيكس في دور نابليون؟ ما الجديد الذي سيُضيئه سكوت في بطله؟
سبب الجزء الأول من الفرضية كامنٌ في أنّ الإعلان عن ترشيح فينيكس لدور نابليون حصل في ذروة نجاح "جوكر" (2019) لتود فيليبس. سبب الجزء الثاني: صُوّرت سيرة نابليون سابقاً في أفلامٍ عدة. ماذا سيضيف سكوت؟
هناك فرنسيون كثيرون في قاعة السينما، في كازابلانكا. ماذا سيقول لهم ماضي فرنسا عن حاضرها؟ يحكي سكوت نتائج طموح زعيم بلد، فلّاحي بائس ممزّق، يتحدّى بلداً عرف الثورة الصناعية، ونهب بحار العالم. لن يُعجَب الفرنسيون بهذه المقاربة. بقراءة الفيلم في سياقه، يتّضح للمُشاهد أنّ حروب عالم اليوم أشدّ من كلّ حروب الماضي. قدّم سكوت وقائع منتقاة من حياة الجنرال، في سرد خطّي لكرونولوجيا، تمتدّ من لحظة اندلاع الثورة الفرنسية (1789)، إلى مطلع القرن الـ19. في كلّ مشهد رئيسي، يكتب المخرج المكان والزمان، لتسهيل موقعة المشهد في الحدث. يعاين الضابط بونابرت البؤس والفوضى، في الثورة الفرنسية المزلزلة. حينها، تناول الشعب مفاتيح السجون لتحرير السجناء، وعيش المجازر. ليس صدفة أنْ يُكتب عنوان الفيلم على الملصق بالدم، على طريقة توقيع نابليون في عقد زواجه.
تاريخياً وسياسياً، كُلّف الضابط بمهمة، ونجح في التحدّي، فطلب ما فوقه. هكذا، صار يترقّى. جنرال صارم ووحيد وغريب وطموح. يظهر السبب في لقطات بؤس فرنسا، في خلفية المَشاهد. من وجهة نظر الفرنسيين، هذا تقليص من عظمة نابليون.
هاجم نابليون الشجاع موسكو، فَفَرّ الروس فوق بحيرة متجمّدة، قصفها نابليون، فانهار الثلج، وبلع الروس. وضع ريدلي سكوت الكاميرا في قعر البحيرة، لالتقاط غرق الجنود والخيل الجريحة، فاختلط الثلج بالدم تدريجياً، في نزولهما إلى القاع. من هذا الموت، تطفو ملحمة بصرية على شاشة ذات 40 متراً مربعاً، تُشبع العين.
أسلوب الفيلم قصيدة بصرية بالضوء واللون، تحت تغيرات الطقس، ما يجعل التلاوين تتغيّر. إنّها شعرية تستلهم اللوحات التشكيلية لزمن الحروب النابليونية. سابقاً، اقتبست حركات جسد بطل "جوكر" من لوحات الرسام إيغون شِيَال. في "نابليون"، اقتبس سكوت مظهر الإمبراطور من لوحات جاك لوي دافيد. تحضر السينوغرافيا في الرسم بشكل أكثر كثافة وقوّة ودلالة. من هنا، يمكنها أنْ تفيد مخرجي المسرح والسينما.
بهدف التواصل مع جمهور واسع، اعتمد سكوت أسلوب إخراج تقليديا. الكاميرا استقرائية، تصعد من الخاص إلى العام، ومن وجه الشخصية إلى الفضاء الشاسع. تستكشف المكان الذي يتحرّك فيه البطل، وحجم الجيش الذي ينتبه إلى إثبات زعامته. يقدّم سكوت تصويراً ملحمياً للقاء العدو المهاجم، والجيش المدافع. هذا المنهج التواصلي في اللقطات يضمن للمخرج ثقة المنتجين. مخرج يقدّم الحساب في شبّاك التذاكر، يستحقّ ميزانيات إنتاج ضخمة.
لم يقتنع نابليون بالنصر في موسكو، فقرّر أنْ يغامر. هكذا ولدت نهايته. أي شجاعة في أنْ يهاجم موسكو، ويطارد الروس باتجاه سانت بطرسبورغ: حينها، وقف أمامه ضابط شجاع، وخاطبه بالسبب الذي استنبطه ستانلي كوبريك لتفسير هزيمة نابليون في روسيا. الجنرال نابليون ابن حوض البحر المتوسط، الذي لم يعرف الثلج، ويريد الوصول إلى شمالي روسيا. قال له الضابط: "كيف نذهب إلى سانت بطرسبورغ في هذا الشتاء الروسي، بخَيْل لا تتناسب والثلج؟". هذا خطأ فادح. لم يصدّق نابليون التحذير، فخسر 560 ألف جندي. تلك بداية النهاية. هزمته الجغرافية، لأنّه تجاهل درس سان تزو في "فنّ الحرب". قال تزو: "أقم معسكرك حيث الطرق والإمدادات وخط العودة". خسر نابليون، فاستحقّ سخرية تولستوي منه، لأنّه عدوّ المسيح في رواية "الحرب والسلام".
لا تنبع قيمة الضابط من شخصه، بل من سياق بروزه، ليحارب الملكيات الإقطاعية. هناك تقع مفارقة: عسكري يقود بلد الثورة، يُنصَّب إمبراطوراً، ويرفض أنْ يضع الكاهن الأكبر التاج فوق رأسه بيده. نابليون بونابرت: هزمته الجغرافية في روسيا الإقطاعية، وهزمته إنكلترا، ملكة البحار في القرنين الـ18 والـ19، في معركة واترلو (1815). الحرب مسألة موارد، لا شجاعة فقط. تستهلك الحروب أعمار البشر. عدد الشجعان الذين يموتون في الحروب أقلّ من الجبناء. الغريب أنّ البشر يحبّون قصص من يُهرقون الدم. يُسمّونهم أبطالاً.
خصص ريدلي سكوت 20 دقيقة لمعركة واترلو. بعدها، جلس نابليون يأكل بشهيّة غريبة، بينما يُصغي لشروط الهزيمة والمنفى. صوّر سكوت الضابط الإنكليزي المنتصر من دون كاريزما. صَوّره كشخص حقود، وقع النصر بين يديه.
ليس في فيلم ريدلي سكوت أي أثر للوجه الساخر لممثل "جوكر"، لأنّ الجنرال رجل سوداوي شكّاك، لا يعرف المرح. تقمّص خواكين فينيكس سلوك جنرال متجهّم، قليل الكلام، كشفت نظرته القلقة سلوكه. لا يُمكن لجنرال، تسبّب في مقتل 3 ملايين شخص، أنْ يمتلك ذرّة مزاح البهلوان. جنرال يتواصل، بنظراته وحركاته، كما تتواصل النحلة حركياً، ليدرك المعنى بصرياً، كما تخاطب النحلة رفيقاتها حين تكتشف غنيمة. هذا من ثمار اشتغال الممثل على نفسه، لكي يُغيّر أداءه. شكلاً: ارتدى البهلوان بزّة جنرال. يقول رولان بارت: "هناك دهشة ما في رؤية شخص مألوف لديك مرتدياً ملابس مختلفة" ("الغرفة المضيئة"، ص. 61).
ما الذي أضافه سكوت إلى نابليون؟ قدّم حكاية عاطفية بلمسة سياسية. يتأسّس الفيلم على عمق تاريخي: التنافس الفرنسي ـ الإنكليزي. بين الحرب والزوجة، اختار العودة إلى معاقبة الزوجة الخائنة، وتقبيلها. ولاؤه للفرس والمرأة. الجنرال قوي في الحرب، وضعيف في السرير. هنا، ركّز المخرج على الجانب الذاتي.
يحضر البعد السياسي للثورة الفرنسية، ليؤثّث خلفية القصة. صوّر سكوت نابليون السوداوي رومانسياً سوداوياً، يعيش الحبّ بصعوبة. ضابط غير راض على نفسه. بينما كان جنوده ينهبون الآثار، تحت نصب أبي الهول، وقف الجنرال يقيس قامته بقامة مومياء فرعون.