ميّ المصري ترصد انتفاضة بيروت: أنواعٌ فيلمية عن وقائع ومسارات

27 ابريل 2022
مي المصري: عن عشق بيروت وكرهها (جون فيليبس/Getty)
+ الخط -

 

فتاة لبنانية شابة تُصوّر بعدسة هاتفها المحمول عدداً من الجنود وهم يضربون النساء من دون رحمة. تقترب منهم، فينهال أحدهم بعصاه على كتفها ورأسها. تتراجع من أثر الضربة قليلاً، ثم تتقدّم باتجاهه. يرفسها الجندي بحذائه العسكري. تنحني لتحمي بطنها، ولا تسقط ولا تتراجع. تُصلِّب قوامها مُجدّداً، وتتقدّم نحوه وهي تتحدّث في ما يشبه العتاب. يتدخل زميله، فتواصل حديثها كأنّها لا تهتمّ بالضرب الذي تلقّته. كأنّها هي مَنْ تملك القوة، وهو ـ رغم عصاه وسلاحه ـ كأنّ الخوف دَبّ في أوصاله، فتراجع مُوارياً خوفه بإدارة ظهره لها، والانشغال بالمتظاهرين الآخرين.

هذه لقطة صوّرتها لُجين جو في انتفاضة 17 أكتوبر/تشرين الأول 2019 في لبنان، عن كسر حاجز الخوف الذي لا يمكن للمرء بعده أن يظلّ هو نفسه. لقطة يتردّد صداها بتنويعات متباينة، في الفيلم الوثائقي "بيروت في عين العاصفة" (75 دقيقة) للفلسطينية مي المصري، المعروض للمرّة الأولى عالمياً في "مهرجان أمستردام الدولي للأفلام الوثائقية (إيدفا)"، المنعقدة دورته الـ34 بين 17 و27 نوفمبر/تشرين الثاني 2021 (في بداية الفيلم، كتبت المصري: "في 17 أكتوبر/تشرين الأول 2019، اندلعت انتفاضة شعبية واسعة النطاق في لبنان"، بينما الشخصيات المختارة فيه استخدمت مفردة "ثورة").

إحدى مزاياه الجمالية تخطّيه الحدود الفيلمية، بمزجه أنواعاً أسلوبية مختلفة، بجرأةٍ ومن دون افتعال أو فجاجة. هناك لقطات "أنيمايشن" و"فيديو آرت"، وأغاني "راب"، ولقطات تخييلية روائية ساخرة، وسرد وثائقي تلقائي، وحوارات أقرب إلى الريبورتاج، ولقاءات تفاعلية في محادثات "أون لاين" بين الشخصيات، وجلسات عمل، ولحظات بوح استبطاني. هناك أيضاً تجريب بصري في عدد من مشاهد الشابة العراقية لُجين، التي تحكي محطّات من رحلة تحرّرها من قيود العائلة، وكسر حاجز الخوف، بموت أختها، وثورتها الصغيرة، قبل أنْ تلجأ إلى لبنان.

أبرز مفاصل قوّة مضمون الفيلم أنّه يحكي عن التناقض في عشق بيروت وكُرهها، أو القهر الذي تعانيه نساء بسببها، وعن الغضب والحزن عليها، من خلال عيون 4 شابات مختلفات الهوية والشخصية، من خلفيات متباينة في المجتمع اللبناني، وإنْ يجمع بينهنّ الوعي السياسي، والعمل في مجالي الفنّ والإعلام: الشقيقتان نويل وميشيل تكتبان أغنياتٍ سياسية ساخرة، وتؤدّيانها؛ حنين، الصحافية المحجّبة، التي تعمل في المجال الوثائقي أيضاً؛ ولُجين، العراقية المُقيمة في لبنان منذ 7 أعوام. اختيار فتاة غير لبنانية يُحسَب للفيلم، لأنّ في لبنان أناساً من جنسيات عربية عدّة، وهذا يتضافر مع حديث حنين عن العشائر والبقاع، وكذلك عن فيلمها عن المهاجرين الفلسطينيين في لبنان، والمآسي الموجودة في مخيماتهم.

بشكل غير مباشر، تتوقّف الكاميرا عند تفاصيل تكشف العنصرية السائدة في بيروت، المُطبّقة في مدن عربية أخرى، وعدم القدرة على تقبّل الآخر. هذا تؤكّده حنين: "أنتمي إلى بيروت، وفي الوقت نفسه تقهرني. كنتُ، عندما أنزل إلى وسط المدينة، أشعر بنظراتٍ تجاه حجابي، تتساءل: "لماذا هي هنا؟". فكرة تقبّل الآخر غير موجودة هنا. ليست في ثقافتنا". تؤكّد نويل وميشيل أنّهما تشعران بأنّ وسط العاصمة لا يشبههما. لذلك، كانتا تكتبان أغنياتٍ ساخرة، تُعبّر عن رفضهما لها.

كل ما سبق ممزوجٍ بأسلوب يتّسم بالتناسق والانسجام، في المونتاج (كارين ضومط). لكنّ المُدهش أنّ مي المصري، رغم كون الشخصيات الـ4 نساء، لم تميّزهنّ عن الرجال. كأنّها تقول، مواربةً، إنّ حال أي مجتمع عربي لن يُصلّح إلا بتضامن النساء والرجال معاً.

الرجل حاضر بقوّة في شبابٍ يُشاركون في تظاهرات الانتفاضة، والمصري تتعمّد كثيراً تصوير (جوسلين أبي جبرايل) شخصياتها وسط الرجال، وأحياناً تجعل الرجال في مقدمة الكادر، وهم يهتفون بشعارات الانتفاضة، أو يحلّلون أسبابها.

الرجل حاضرٌ أيضاً في آباءٍ، وإنْ سلبياً أحياناً، كما في حالة لُجين، وكيف أنّ كلّ واحدٍ منهم أثّر في تكوين النساء الـ4، وبناء شخصيات بناته. تحكي ميشيل عن أمّها، الشاعرة التي تكتب للقضية، وأبيها عاشق التاريخ، وكيف أنّ له دوراً منذ طفولتها في اتجاهها وشقيقتها إلى الإبداع، كتابةً ورسماً. كان يُشجّعهما، في عمرٍ أكبر، على مزيد من الجرأة، تبلغ حدّ الجنون، قائلاً: "إذا انزعجتِ من شيءٍ، افعلي شيئاً. لا تلعبي دور الضحية". تختم ميشيل بأنّها أخذت من والديها خبرتهما، وانطلقت منها، تعبيراً عن تكامل الأجيال. أما حنين، فتؤكّد مساحة الحرية والاختيار التي أوجدها الأب في المنزل، فهى محجّبة منذ بلوغها 13 عاماً، بينما أختها، وعمرها 25 عاماً، كانت ترفض الحجاب. مع ذلك، تحترم كلّ واحدة خيارات الأخرى.

 

 

يتناول "بيروت في عين العاصفة" الانتفاضة اللبنانية، والأسباب المؤدّية إليها، من أسعار الخبز والبنزين، إلى المصارف التي أعلنت إفلاسها. يقول عدد من المنتفضين في ساحة الشهداء في بيروت: "لم نأتِ إلى هنا صدفة. وصلنا بعد عملية نهب منظّمة. لجميعنا أهداف واحدة، رغم أنّنا جئنا من مناطق مختلفة. عندما نتخرّج من كلّياتنا، لن نعثر على وظيفة. لن نجد مكاناً لنا في لبنان".

يبدأ الفيلم من الانتفاضة المتفجّرة في ساحة الشهداء، تظلّ الدقائق الـ7 الأولى مشتعلة بها، بصرياً وسمعياً، تعبيراً عن الفرح والبهجة والحيوية، مع أعلامٍ ترفرف عالياً، رغم قنابل الغاز، ثم إعلان استقالة سعد الحريري (29 أكتوبر/تشرين الأول 2019) فتعمّ البهجة مُجدّداً. تقول إحداهنّ: "أجمل أيام عشتها. للمرّة الأولى يحدث تغيير بسبب الشارع". ثم ينتقل الحديث إلى مشاعر ما قبل اندلاع الانتفاضة، حيث الخوف من الموت والجمود.

في رصدها الانتفاضة، تتعمّق مي المصري في حياة الشابات، وتلمس عصب الأشياء وجوهرها الحقيقي، فنرى الانتفاضة وأسبابها وما آلت إليه، أو كيف جرى وأدها، ونعرف لماذا قرّرت بعض الفتيات المشاركةَ في التظاهرات. تقول حنين إنّها شعرت أنّ الفئات الموجودة لم تكن تُمثلها وتُعبّر عنها، ولم تكن تجد نفسها فيها. لذلك، قرّرت المشاركة لتعبّر عن نفسها، ولتراقب وترصد، بسبب عملها.

بعد الدقائق الـ7 الأولى هذه، يتمّ إظلام تام، وقطع مونتاجي يؤكّد مرور 4 أشهر. ثم تجوب الكاميرا في المدينة المهجورة جرّاء تفشّي كورونا، لترصد تبدل الأحوال كلّياً. من تلك اللحظة، تصبح الانتفاضة "فلاش باك"، في كلام الشابات ولقاءاتهنّ وذكرياتهنّ، ومع ذلك، هناك شعورٌ بالمقاومة وعدم الاستسلام. أثناء ذلك، تنتقل المصري بين العام والخاص أكثر من مرّة.

اللغة البصرية عند مي المصري معبّرة، رغم أنّها تبدو في أبسط حالاتها. مثلاً: احتفاء الشارع باستقالة الحريري، ثم لقطة واسعة تتضمّن إشارة مرور صفراء تنطفئ وتُضيء، أعقبها انتقال زمني (4 أشهر)، وحالة موت المدينة رمزياً، بسب كورونا، كأنّها مدينة بلا ناس. خيام حوار الشباب خاوية، تهزّها الرياح. كذلك لقطات لُجين في سيرها على عكّازها، بعد كسر كاحلها في الانتفاضة، في المدينة المهجورة: لقطة جمالية لها دلالات بلاغية، إذ تشي بحالة المكان، وتحمل نبوءة عن تلك المدينة المنكوبة. فبعد لحظات، ينفجر مرفأ بيروت (4 أغسطس/آب 2020)، وبه تختتم المصري فيلمها. كأنّ الانفجار نتيجة حتمية لكلّ الفساد الممارس على اللبنانيين واللبنانيات.

المساهمون