"قلب أحمر كبير" فيلمٌ قصير (29 دقيقة) للّبناني ميشال كمّون، تعرضه المنصّة الأميركية "نتفليكس"، في سلسلة "في الحب والحياة" (العنوان الإنكليزي: "حب، حياة وكلّ شيءٍ بينهما"، 2022، فكرة: عزة شلبي. إنتاج مشترك مع "شركة اتحاد الفنانين للسينما والفيديو"). الركيزة الدرامية للأفلام الـ8 واحدة: إنّه عيد الحبّ، والتفاصيل الأخرى في يومِهِ مرهونةٌ بما يرغب كلّ مخرجٍ عربيّ في قوله أو وصفه أو الاشتغال عليه. كمّون يختار قلباً أحمر كبيراً ليُرسله عاشقٌ مُتيّمٌ (آلان سعادة) إلى حبيبته (ريتا حايك)، الرافضة له لأسبابٍ، لن تكون معرفتها مهمّة، فللحبّ أهواءٌ وأشجانٌ ومصائب وتبعات وآثار، ولكلّ قصّة حبّ أعطابها، وبهاؤها أيضاً.
باختياره هذا القلب الأحمر الكبير، ينفتح ميشال كمّون على مدينةٍ وأحوالها، وعلى أناسٍ وأشكالٍ مختلفة للحبّ، وعلى خرابٍ يعتمل في قلب بيروت وروحها. رحلة العامل في محلّ زهور (إيلي نجيم) مليئة بتفاصيل بيروتية، وبلقطات تُثير بعض ضحكٍ، ومغامرة تعكس شيئاً من علاقة المخرج بمدينته. تصويرٌ بـ"درون" (روجيه طنوس وباتريك اسطفان) يُراد له توثيق شوارع وأبنية وتقاطعات في مدينةٍ مُثقلة بأهوالٍ ومصائب، وتصوير (مدير التصوير فادي قاسم، مُصوّر كريم غريب) يتوغّل في أحشائها وروحها، بخفّة وسلاسة تزيلان كلّ عائقٍ بين التفاصيل والأمكنة والفضاءات والناس، لينكشف بعض البؤس، ومتعة الحبّ وانكساراته.
للكوميديا الخفيفة حيّزٌ متواضع، في مسارٍ دراميّ يُرافق العاملَ في رحلته إلى منزل المعشوقة، وقي محطّات يُجبَر على التوقّف فيها، فيلتقي أناساً عاشقين، يجهدون ـ وإنْ بطريقة يُستشفّ منها نوعٌ من سخريةٍ مُحبَّبة ـ في إظهار الحبّ للحبيبات المعشوقات. لكنّ حبّاً آخر يعتمل في صُور المدينة وحيّزها الجغرافي، المنعكسة في مسام الفيلم ومناخه وسياقه، والمدينة شخصيةٌ يُقدِّم ميشال كمّون قلبه الكبير إليها، رغم طعناتٍ تقول إنّ شيئاً جميلاً ينتهي في تلك العلاقة الملتبسة والمعقّدة بين بيروت وأناسٍ كثيرين.
اللقطات الأخيرة تشير إلى هذا. خيبة الحبّ التي يُصاب بها العاشق (إنّها خيبات أساساً، إذْ ينكشف انفضاض المعشوقة عنه مراراً قبل لحظة اللقاء الأخير) لن تختلف عن خيبة حبٍّ من نوع آخر بين سينمائيّ ومدينةٍ، تحتل في أفلامه القصيرة والطويلة مكانة أساسية، كأنّها، فعلياً، شخصية رئيسية لا مجرّد مدينةٍ تشهد أحداث فيلمٍ أو أكثر.
مع الشخصيات المختلفة، تحضر بيروت ركيزةً درامية، وتصنع من واقعها الآنيّ صُوراً يصعب على كمّون (أو هكذا يبدو على الأقلّ) حسم ارتباطه بها وبالمدينة. اللقطات الأخيرة، المنتهية بإهداء "إلى بيروت"، تُعلِن ـ بكل ما فيها من تفاصيل قليلة ومهمّة (يُفضَّل عدم تحديدها) ـ أنّ الحبّ معلّقٌ، وأنّ القلب الكبير مليءٌ بالأحمر، وأنّ للأحمر جمالاً وموتاً وآلاماً، وأنّ لميشال كمّون براعة عشق يلتقطه في هوامش تؤدّي إلى متنٍ دراميّ متكامل.
هناك إيهامٌ بسخرية ما. صاحب مصنع للخياطة (فادي أبي سمرا)، وأسلوب تعبيره عن عشقه لعشيقةٍ، وتداخل الشعر في عوالم وأناسٍ، والنص المكتوب من العاشق إلى حبيبته المنفضّة عنه، وإلقائه إياه، وضياع القلب الأحمر الكبير من العامِل، ثم عثوره عليه، واستعادته؛ هذا كلّه يوحي بكوميديا، لن تتمادى في الإضحاك، لأنّ الأجمل من المباشَر كامنٌ في الاحتيال والتواري خلف مظاهر بصرية، يُفترض بها ألاّ تقول شيئاً، بل أنْ توحي بأنّها تقول شيئاً، أو أكثر.
لذا، يُصبح الأداء تعبيراً عن توهانٍ بين كوميديا مُخفّفة، وسخرية مُعلّقة بين الباطن والواضح، وواقعٍ يروي سِيَر حبّ، قبل أنْ يصل إلى حكاية خرابٍ وموتٍ واهتراءٍ وطعنٍ وضياعٍ وألمٍ. والطعن، وحده، يتفرّد بين هذا كلّه، فالحالات الأخرى تنبثق منه، لتقول ما يبوح به "قلب أحمر كبير" أصلاً (هذا ينكشف في اللقطات الأخيرة).
إيلي نجيم (العامل المطلوب منه تسليم القلب الأحمر الكبير للمعشوقة) يبقى الأساسيّ، مؤدّياً دوره ببساطة تتلاءم وشخصيته السينمائية، بارتباكاتها وقلقها وبساطتها وهدوئها وتوتّرها، في الرحلة المليئة بمغامرات وتحدّيات ومصائب ومواجهات، وفي إلقائه "المصطنع" لقصيدة العاشق، تحت نافذة المعشوقة المنفضّة عن حبيبها لألف سبب. كعادتها، تمنح ريتا حايك الشخصيةَ متطلّباتها العفوية والبسيطة والغاضبة، تماماً كآلان سعادة في عشقه وجنونه، وكاريكاتوريّة العشق والجنون أيضاً. شخصية فادي أبي سمرا متسلّطة، فهو صاحب نفوذ. لكنّ الحبّ أعمى، وهيامه بالحبيبة يختلف كلّياً عن هيام العاشق بمن ترفضه وتريد رحيله عنها ومنها.
يصعب فصل أنماط الحبّ وأشكاله، في "قلب أحمر كبير"، بعضها عن بعض. المُشاهدة كفيلةٌ بتبيان علاقة ميشال كمّون ببيروت، المنفلشة في أفلامٍ سابقة له، خاصّة الروائي القصير "ظلال" (1995)، والروائي الطويل "فلافل" (2006). الركض في الشوارع، والتجوّل على دراجة نارية صغيرة بحثاً عن شيءٍ أو أحدٍ، أو بالأحرى بحثاً عن ذاتٍ وروحٍ ومدينةٍ وحكايات وعلاقات، أمور حاضرة في أفلامه، تدفع إلى إعادة البحث الذاتي عن تلك العلاقة الغريبة بمدينة تُدعى بيروت، وبحبّ يتشوّه كلّ لحظةٍ، وبعنادٍ ملتبس وخطر إزاء ارتباطٍ بأفراد قلائل، وإزاء التزامٍ بقناعاتٍ وانفعالاتٍ.