- يسرد الألبوم قصة شعرية موسيقية حول "حرب الفنادق" خلال الحرب الأهلية اللبنانية، معبرًا عن رؤية جلاد الفنية الفريدة التي تدمج مجالات متباينة لتعكس الذات الفردية والجمعية.
- يتميز بتصميم صوتي يتأرجح بين الحركة والسكون، معتمدًا على نهج مينيمالي واستخدام متقن للموسيقى الإلكترونية ومؤثرات الجاز الحر، مخلقًا بيئة سمعية تعبر عن علاقة الفنانة ببيروت ودور الفن في التأمل والشفاء.
لم تعد جودة الصنعة ما يميّز مُنتجاً موسيقياً هذه الأيام، بل فرادة الفكرة، ذلك أن الصنعة صارت جيدة في معظم الأحيان، أقلّه في موسيقى البوب أو أي جنس موسيقي دنا منه أو نأى، يستخدم وسائله الإنتاجية في التسجيل والمعالجة الرقمية والإلكترونية، بحكم عموم ظاهرة مشاع التكنولوجيا وسهولة اقتنائها واستخدامها، سواء أكان الاستوديو في نيويورك أم في بيروت. ينطبق هذا المعيار الجديد بإحكام على الألبوم المنفرد الأول للمغنية اللبنانية وكاتبة الأغاني ميساء جلاد بالتعاون مع المؤلف والمنتج الموسيقي فادي طبال
صدر العمل منذ شهر، مرفوعاً على يوتيوب وغيره، وحطّ بالفنانة في العاصمة الألمانية برلين، لتُقدم فيها عرضاً موسيقياً ترويجياً له، من بين محطّاتٍ أخرى على مسار جولتها الأوروبية التي لا تزال مستمرة.
تجتمع في سيرة جلاد الذاتية مؤهلات الإتيان بفكرة فريدة لأجل إنتاج ألبومٍ فريد، يمكن تصنيفه ضمن فئة ما بات يُعرف بمسمّى "موسيقى بديلة"؛ الفنانة في الأصل معمارية، وفضلاً عن كونها تُجيد الغناء والتلحين، تحوز أدوات التعبير الأدبي، الذي اختارت له اللغة العربية الفصحى.
أما الكرزة على رأس الحلوى، كما يُقال، فهي تطوّر حسّ الريادة لديها (Entrepreneurship)، ما مكّنها من إيجاد نقاط تلاقٍ بين ميادين ومجالاتٍ وموضوعات، تبدو للوهلة الأولى مُتباعدة، ومن ثم المضيّ قُدماً لإدماجها في مُنتجٍ فنّي، يعتمد وسيطاً موحَّداً للتعبير عن الذات الفردية والجمعية، ألا وهو الموسيقى.
فكرة الألبوم هي قصٌّ موسيقيٌّ شعريٌّ لفصلٍ مُبكّر، درامي ودامي من فصول الحرب الأهلية اللبنانية عُرف بعنوان "حرب الفنادق"، حين استباح كلُّ فريقٍ من المحتربين سنة 1975 الحيّ السياحي في العاصمة اللبنانية بيروت، بهدف الاستيلاء على أكبر عددٍ من فنادقه الفارهة الشاهقة، وتحويل سطوحها إلى أبراج قنص تتربص بالفريق الآخر.
بأثرٍ من موضوع أطروحتها للماجستير، التي اشتغلت عليها في جامعة كولومبيا الأميركية، تعتمد ميساء في تقديمها فكرة الألبوم وتطويرها على خطاب ما بعد حداثي جذّاب يواكب روح العصر، يحتوي على مفردات تنتمي بالإساس إلى صندوق عِدّتها البحثي في العمران الحضري، إلا أنها تُستخدم مفاهيمياً بوصفها أدواتٍ فنية منهجية، مثل الحفظ والتأريخ والأرشفة وحماية الذاكرة من آليات المحو والتحوير، الذاتية والموضوعية، الطوعية والقسرية. بهذا، يصير عنوان الألبوم "مرجِع" إزاء فكرة الألبوم، أشبه بمصطلح تقني ذي دلالة رمزية جامعة.
عند التنفيذ، لن تقف الفكرة الفنّية على عتبة المفاهيم، وإنما ستغور عميقاً في وجدانية العلاقة البيروتية بين الفنانة والفنادق، ليس فقط بوصفها صروحاً إنشائية آلت مسارحَ لأحداثٍ تاريخية، بل بتخيّلها "كيانات عمرانية" (Urban Beings) كابدت تلك الأحداث وتأثرت بها، تؤوي ذاكرة تُروى عبر الصوت الغنائي على شكل "تروبادور" أسطورة شعبية، تعتمد الإشارة المجازية، تنزع عن الشخصيات لبوسات الهوية، تُحوّل سِيَر المعارك والغزوات، إلى ما تُسمّيه ميساء جلاد، ميثولوجيا الحرب الأهلية، فتُعيد وصل الذاكرة، خصوصاً لدى جيل ما بعد الحرب، بماضٍ لا يبعد عن الحاضر إلا عقوداً أربعة.
وفقاً لهذا النهج التعاطفي في التوثيق بأدوات التعبير الفنّي البين - مناهجي متعددِ الوسائط، سيؤدي طريق وصل الماضي اللبناني بحاضره إلى سؤالٍ، تتوجّه به ميساء جلاد إلى جيل ما بعد الحرب، مخاطبةً بالضمير "نحن"، تريده أن يبقى مُعلّقاً: "كيف نستجيب؟" أي للمجزرة، فتختم به أغنيتها المعنونة، "هوليداي إن - من يناير لمارس" (Holiday Inn-From January to March) نسبة إلى اسم الفندق الذي شهد أعتى الاشتباكات، وتأريخاً لفترة نشوبها.
تمهيداً لطرح سؤالها المعلّق والمفتوح، تبوح ميساء جلاد بحنجرة مختلجة مختنقة تماهت مع الذات الجمعية ومع ذات "الهوليدي - إن" بتصوّره كياناً عمرانيّاً، تبدأ برصدِ خلايا عنفٍ نائمة بداخلها، أو بداخل المبنى، إذ تُغنّي : "يختبئ أزرقٌ في جسدي"، فهي تلجأ إلى لغة شعرية مرّات، وتوثيقيّة مرّات، ثم تدع اللغتين تتقابلان وتتداخلان في كونتربوان (Counterpoints) "يدور.. ويدور"، ليتحوّل الشعر إلى وثيقة تاريخية، والوثيقة التاريخية إلى مكوّن شعري، فتنطق بشهادة العمران من خلال الإنسان، تنطلق بموجبها صيرورة شفائية استبطانية، عساها أن تلئم الجرح وتستخرج العبر إزاء الحاضر والمستقبل.
تُؤلَّف الموسيقى ضمن المشهد السمعي وفق تصميم فراغيّ يتأرجح ما بين الحركة والسكون، ويعكس حالاً نفسية توحي بسُكر وخَدَر كما لو كان ناتجاً عن عوارض رضّ أو صدمة. يُتّبع في المقدمة نهجٌ مينيمالي، يُمنح الصمت بموجبه مساحات واسعة، تفصل بينها نغمات متفرّقة ترافق الغناء، تُسمع تائهة ومشتّتة في طور التشكُّل والتبلور، تتلمّس لها وجهةً ومساراً، تُعزَف على مفاتيح بيانو داكن النبرة، سُجلّ في بيئة صوتية خام.
لا تلبث الوجهة أن تتحدد، فتبدأ الأغنية بالالتفاف حول موتيڤ إيقاعي ثابت متكرر من على لوح البيانو. يستمر الدوران ببطء ثقيل كما لو كان البطء ناتجاً من آلية إبطاءٍ سينمائية. تتولّد عن حركته موجات صوتية، تُجسّدها صنوج الدرامز، وهي تُطرق بأسلوب موسيقى الجاز الحر (Free Jazz) تخلق مؤثرات، تتفرّع منها استطالات، صُنعت من تراكيب موسيقى إلكترونية، تمتد في الصمت إلى أن تخمد، مانحةً الأغنية عمقها الفراغي. أما الختام فيأتي على شكل "كولّاج" من خلال لصق مقطع مُسجّل لصوت أحد شهود العيان.
يُمكن النظر إلى ألبوم "مرجع"، على أنه مشروع فنيّ رياديّ بالمعنى العصريّ الرائج للكلمة. ثمّة فكرة سبّاقة، علاوة على منهجٍ تطبيقي عبر - مناهجي، يستغل بإسهاب كلّ الوسائط التعبيرية المتاحة، لتتقاطع ضمن إطارٍ مفاهيميّ من خلال تصميمٍ متعدد التراكيب والطبقات والمستويات. إلا أن ريادية المشروع وحسن تنفيذه وتسويقه والتخطيط له، لا يجوز لها أن تحجب الرؤية عن الجوهر البسيط، الحقيقي والصافي الكامن بين النغمات وما بين سطور الكلمات وخلف إنشاءات الصورة والصوت، المتمثل بحبّ ميساء جلاد المُلهِم لمدينتها بيروت.