"مياه عميقة": نصٌّ سينمائيّ مُعطّل وإخراجٌ مُفتعل

16 نوفمبر 2022
آنا دي أرماس وبن أفلك: أداء متفاوت الأهمية في فيلم عادي (الملف الصحافي)
+ الخط -

 

في فيلمه السينمائي الأخير، "مياهٌ عميقة" (2022)، لا يُقدّم البريطاني أدريان لين (1941) أيّ جديدٍ يُذكر، في مُستوى التخييل، إذْ يبدو التنميط البصريّ واضحاً بالنسبة إلى مُشاهد فيلمه "الخائن" (2002).

في جديده، يروي حكاية امرأة جميلة، تُدعى مليندا فان آلّن (آنا دي أرماس)، شبقيّة وإيروتيكية تُحبّ الجنس، لكنّها لا تستطيع تحقيق رغبتها مع زوجٍها فِكْ (بن أفلك)، الذي يكنّ لها حبّاً ذاتياً أصيلاً، ويندهش من صورتها وجمالها وحركات جسدها، هي التي تدفعه إلى التقاط صُوَرٍ لها، حبّاً وافتتاناً بشخصها. مع ذلك، لا تشعر معه بشيءٍ، رغم معرفتها مُسبقاً بحجم الحبّ الذي يكنّه لها، فتتّفق معه على تنويع علاقاتها الغرامية والجسدية، لإنقاذ زواجهما.

الفيلم القديم يحكي أيضاً عن امرأة مُذهلةٍ تُدعى كوني سامُّر (دايان لين)، تُحبّ زوجها إدوارد (ريتشارد جير)، لكنّها تشعر برتابة زواجها، فتلتقي صدفة بول مارتِل (أوليفر مارتينيز)، الشاب الثلاثينيّ الذي يجعلها تكتشف جمالها وحبّها وهواجسها الجسدية. المُشترك بين الفيلمين يتمثّل في عالم الجريمة، عبر عنصر القتل الذي يُجدّد مُعين كلّ فيلمٍ، ويجعل خيوطه السرديّة تتشعّب بشكلٍ مُربكٍ وغامض. يخلق المخرج طباقاً بصرياً بينهما، ويجعلهما ينسابان من إشكاليّة واحدة. علماً أنّ المرأة في أفلامه سبب دائم في تأزيم العلاقة الزوجية، بفعل الخيانة. لكنّه يُجمّل أفلامه بعالم القتل، مُظهراً الحبّ باعتباره فعل مقاومة وعيشٍ وبقاء، يجعل الزوج يبذل جهداً للحصول على حبّه، والإبقاء عليه.

ما لم ينتبه إليه أدريان لين أنّ اختيار الحكاية نفسها، مع تنويعٍ بصريّ مقصود في الـ"كاستينغ" واختيار النجوم، يجعل مَشاهده تنميطية مُكرّرة، لا تُظهر أيّ قدرةٍ أدائية للمُمثلين، إذْ ينزع عنهم هذه الموهبة، ويتركهم لأداء سينمائي قائم على مفهوم الارتجال. لا يكمن العطب في نوعية الصُوَر، وهذا يجعل "مياه عميقة" رديئاً، يجري وراء الكليشيه. فالعطب يتجلّى في التأليف، وفي عدم قُدرته على إنتاج صُوَرٍ حقيقية مُنتزعة من الواقع. ورغم أنّ نهاية "الخائن" تبدو كأنّها تقديمٌ بصريّ لـ"مياه عميقة"، إذْ يقتل الزوجُ حبيبَ زوجته في الأول، ويُواصل البطلُ قتلَ عُشّاق زوجته في الثاني، لم ينجح لين في بلورة مشروع سينمائي يولِّد صُوَراً جديدة تندلق بين المَشاهد وثنايا النصّ، ما يجعله أصيلاً ومُبتكراً.

رغم حرصه على تنويعٍ الفضاءات والأكسسوارات والمَشاهد والممثلين، لم ينجح أدريان لين في انتزاع صورة سينمائية جديدة، تجعل "مياه عميقة" يمزج، بهدوء، نفَساً رومانسياً حميمياً بنَفَس عنيف يتمثّل في الأكشن والحركة. على هذا الأساس، عطّل تكرارُ الحكاية صُوَرَ الفيلم، وجعلها مُبتذلة، مع تركيز كبير على مَشاهد جنسية لم تُفتن المُشاهِد، بقدر ما جعلته يُطلق أحكاماً نقديّة عليه، وعلى مُستواه الهزيل في التخييل.

ما الدافع من تكرار حكايةٍ بصريّة، وإضافة توابل جديدة، والحفاظ على الخلطة السينمائية نفسها؟ أمورٌ كهذه مقبولة في أفلامٍ هندية عدّة، خلقت تواشجاً سينمائياً قوياً مع أفلام هوليوودية، بالاشتغال عليها لكنْ بنَفَسٍ بوليوودي، فمنحتها عالماً دلالياً جديداً، له علاقة بتقاليد سينمائية هندية. لكنّ هذا غير مقبول مع أدريان لين، في وقتٍ لم يعُد الغنج والجنس ومشاهد القبلات تُفتن المُشاهد، أمام واقع عالمي مُشوّه، مليء بتنانين السُلطة، وقهر الأفراد، وفحش النُظم السياسية وقمعها.

 

 

يطرح "مياه عميقة" أسئلة جوهرية عن علاقة السينما بالجسد، وفق نمطٍ جنسيّ سطحي، غير قادرٍ على تأصيل الرغبة في الصورة السينمائية، باعتبار الرغبة سلطة في مواجهة سلطة السينما، وكيف يُمكن للمُشاهِد الاهتداء إلى فهمٍ عميقٍ للإنسان في علاقته بالحبّ والجسد. في الفيلم، تبرز الرغبة بوصفها شيئاً برّانياً طارئاً على تأزّم نظام العلاقة الزوجية وتدهورها، باعتبارها ناتجة عن مفهوم الحاجة، كما ذهبت إلى ذلك مدرسة التحليل النفسي، مُحوّلة إيّاها إلى مسألة ترتبط لاشعورياً بالصُوَر والاستيهامات لتحقيق الغريزة. بهذه الطريقة، لم ينجح لين في التعامل معها كمُعطى واقعي، بتعبير جيل دولوز، لكونها امتداداً لحقل اجتماعي وسياقٍ تاريخيّ تبلورت فيه، وبالتالي، تكون مرآةً للمُجتمع ككّل، لا ذاكرة لكينونة الفرد فقط في علاقته بجسده وماضيه.

هكذا يضع أدريان لين، بصرياً، مفهومه لـ"الرغبة" بشكلٍ مُبسّط وساذج، مُسايراً في تحليلاته مُختلف الصُوَر الجنسية التي ظلّت السينما الأميركية تبسطها أمام مُخيّلة المُشاهد، كنوعٍ من المُتعة الحسّية المُرتبطة بالنفس والغريزة اللتين ينبغي إشباعهما.

ترتكز بعض جماليّات "مياه عميقة" على قوّة أداء بن أفلك، وتعامله الهادئ والناضج مع مُختلف المَشاهد. جمالٌ وابتسامةٌ لا يجعلهما أفلك ركيزة لفنّ الأداء لديه، بقدر ما يغوص عميقاً في الشخصية، لفهم ملامحها الفنّية ومنظورها الجماليّ، والخروج منها مُجدّداً. النتيجة؟ عيش طباقٍ بصري معها، على شكلٍ أداءٍ تلقائيّ هادئ، لا يروم استخدام حركات الجسد وتمثّلاته، بقدر ما يبقى مُرتبطاً بحدود النصّ، مع إمكانية الانفلات منه في آنٍ واحد.

في مقابل هذا، تُقدّم آنا دي أرماس أداءً مُفتعلاً، يرتكز على جماليّات الجسد والتمويه البصريّ، مع مَشاهد قليلة، كادت تكون جدّية، قبل أنْ تنحرف مجدّداً صوب الكليشيه الجسدي. سبب ذلك عائد أساساً إلى ضعف التأليف، لكونه لا يُعطي للمُمثلة مساحة جماليّة كبيرة للأداء، والانفلات من سُلطة الجسد على ذاتها أوّلاً، قبل المُشاهد.

المساهمون