"ميادينك" لـ الفرعي... بعد الأغنية الأولى

19 فبراير 2023
تعاون الفرعي لإصدار الألبوم مع المنتج "عاشور" (فيسبوك)
+ الخط -

أَصدر، أخيراً، الفنان الأردني الفلسطيني، طارق أبو كويك، المعروف بـ الفرعي، ألبومه المُصَغر "ميادينك"، على جميع منصات الاستماع. وهو، إذا ما نظرنا إلى موقعه كعمل فني في مسيرته، نطلق عليه مباشرةً، "تَفَرُّعاً جديداً".

تتموضع تراكاته الأربعة في الألبوم ضمن قالب بوب إلكتروني، طغت عليها جميعاً التجريبية، ذات الضبابية المُفَكِكة غير المألوفة لجمهوره الوفي، فالموضوع العام للألبوم قارب هجرة المدينة/الحبيبة بكل ما تحمله من غربة وهجران، من دون الإشارة بشكل مباشر إلى إحداهما أو كليهما. وهذا موضوع الأغنية الأكثر انتشاراً في مسيرته "تغيرتي"، الصادرة عام 2017. 

أربك الفرعي المستمعين بضبابية المُخاطب الذي تشير إليه ضمائره في التراكات الأربعة، ما عدا تراك "إلك". من الواضح أنه يتحدث للفتاة التي أصبحت زوجته أخيراً، بعد أن غازلها بأغنية "ما تهون" التي صدرت ضمن ألبومه السابق "ناس من خشب" الصادر عام 2022. لزواجه وزيادة تعقيد الأوضاع السياسية والاجتماعية في العالم العربي، تفرعات شخصية وعمومية ستكون أوضح في أعماله المقبلة.

قد يجوز التغاضي عن الضبابية مقابل تجديد حقيقي في الألبوم، لكنه أتى خالياً من العينات الصوتية الجديدة، لمسة التيمبو السريعة التقليدية استُخدمت لجذب المستمع الغريب عن الراب، والتخفيف من تدفق (Flow) مصطلحاته وجُمَله التي بدت مكررة. أيضاً، تفضيل الكم على الكثافة والنوعية للجمل الحاسمة ما يسمى الـ Punch Lines، إضافةً إلى ما أشرنا إليه في مقالٍ سابق حول تبسيطه للصيغ المباشرة والتخفيف من قرع ناموس الخطر، جميعها عناصر بنيوية مفقودة في الألبوم.

"ميادينك"، الأُغنية الأولى، الحامل الأكبر للألبوم من ناحية النوستالجيا والذكريات التي ما زالت تربطه بالأردن، مدينة عمّان تحديداً، حدثت المكاشفة نصياً بسرعة في لحظة الهزيمة اللذيذة أمام "ميادينك"، التي ليست مستحيلة بالنسبة له. الأغنية ذات الوصفة الاستهلاكية الجاهزة، استغلت جاذبية شكلية مناقضة لبدايات الفرعي الذي كان يتماهى مع الراب ليقول ما يريد على إيقاع غيتاره الخشبي، ويتفحص بدقة -قلة من وصلوا لها في مشهد الراب العربي- التفاصيل السياسية والاجتماعية لمياديننا نحن.

استمرت أغنيات الألبوم بالصدور بفاصل زمني بلغت مدته أسبوعاً. تأخرت إحداها ثلاثة أيام حداداً على روح الشهيد عدي التميمي، وإكراماً لأهالي مخيم شعفاط وجميع شهداء فلسطين وأهاليهم. "إلك"، الأغنية الثانية، رومانسية تقليدية مع علامات بيانو في الفواصل، وصور شعرية مترابطة لكنها لا تحمل أي تجدد.

الراب، على يد مُدْمنيه، انقلب على البديهي والسائد، المستغرب أن الفرعي كان من أشهر مُدْمنيه، حتى الرومانسية في أغنية "القلب الثاني" الصادرة منذ تسع سنوات، أتت بالجديد من ناحية النص الذي أنتج تَحولاً في الأسلوب، انطلاقاً من معرفة عميقة بالنص من ناحية إيقاع المفردات، والتقلبات اللغوية بين العربية والإنكليزية من ناحية التشابيه النابعة من مخزوننا اللغوي الحداثوي.

ضمن مساحة رضاه، كما أخبرنا في أحد بوستاته على "فيسبوك"، أتت تجربة البوب التي تحدث عنها بشكل متكامل في "المي العكرة" الأغنية الثالثة. إيقاعٌ بسيط متوقع، أوتوتيون (آلة التصحيح النغمي) مُخفف، سطحية تناول للموضوع الذي تحدث فيه عن "المي الأوسخ في الشرق الأوسط"، ما أثار استغراب جمهوره، وصولاً إلى "طعج" جمله العربية والإنكليزية ضمن هذا القالب، حصلنا بعد ما ذكر على أغنية قليلة العناصر كثيرة الجمل لا تتيح للمستعين الراحة بينها ولا تدخلنا في الرحلة الوعرة المعتادة عند الاستماع لأعماله السابقة.

الأغنية الأخيرة، "إيه يا زمن"، حقق لها فيديو كليب أخيراً، تَشدّ في البداية المستمع إلى ما يريده، بلاد الشؤم والشتات، النبوءة القادمة اختصاص الفرعي، فبكلماته القافزة ما بين المزح والجد، يخبرنا أننا "وطينا السقف"، وأن للنجم عمر و"بينطفى"، لكنه يبقى الفرعي الذي يعود له دوره كل سنتين على الأكثر، الشاب المتوتر دائم القلق وصل قمة النجاح التجاري في "تغيرتي" وقمة التجديد النَصي في "تدفق المخطط"، لتكون زاوية مثلث النجاح الأخيرة هي "يا زين" من الناحية الفنية.

تعاون الفرعي لإصدار الألبوم مع المنتج "عاشور"، وعمل سابقاً معه على تراكات سينغل، شَكْل الصنعة عُجن على يد عاشور، خَبَزَ مضمونها الفرعي. معنى الاستقلال في العمل له قيمته الهائلة لا شك، لكن التوحيد القياسي للعمل من الناحية الصناعية قد ينتج لنا خُبزاً فنياً متشابهاً نستهلكه دون تَميْيز أو استمتاع، هذا ما يجبرهم على العودة بشكل دائم للسؤال البديهي، من الجمهور؟ ومتى؟ ولماذا؟

ضمنت ثنائية المدينة والحبيبة نجاحاً، وليس تجديداً، فكموقفه من الحياة موقفه من الموسيقى، تجريبي، دؤوب، متسق، أَخرج عَمّان المدينة إلى مشهد الراب بخصوصيتها كاملة، الشأن العام مستمر الحضور بأوجه ووجهات نظر شبابية متعددة غير متخشبة عابرة للتصنيفات الأيديولوجية.

الشاب الذي بدأ كدرامر مع فرقة "زمن الزعتر" عام 2005، ليس من السهل اتهامه بفقدان تعدد الشخصيات والألسنة في أغانيه أو دخوله في عجلة الإنتاج التجاري، فرع المداخل والرجل الخشبي شخصيتاه داخل مشروع الفرعي، نابعتان من الخامات الاجتماعية الأردنية الفلسطينية ذات الخلفية البدوية والفلاحية العربية. أسباب نفسية عديدة كما صرح في إحدى مقابلاته دفعته للغناء أمام العامة، من استشهاد خاله في فلسطين وتفجيرات 11 سبتمبر، ولاحقاً حرب العراق وحرب لبنان وجميعها حاضرة عندما يحتضن غيتاره، الأداة الخشبية التي رسمت لنا طريقنا في ميادين الفرعي.

المساهمون