موموني سانو (2/ 2): "في أفريقيا يمنحنا الحب قوّة الاعتناء بالآخرين"

29 مايو 2023
موموني سانو مناقشاً "حضانة ليلية" في "برليناله 71" (الموقع الإلكتروني للمهرجان)
+ الخط -

 

(*) هناك أيضاً المشاهد الرائعة: تصوير الأطفال على مستوى قاماتهم الصغيرة. هذا يعطي تسلسلات مؤثّرة للغاية، عندما نراهم يلهون بالطعام (خضار، علب سباغيتي، إلخ)، فبدأنا نطرح أسئلة عن مستقبلهم. هل تساءلت عن هذا وأنت تصوّرهم؟

طبعاً. تساءلت كثيراً عن هذا عند تصويرهم. لم يطرح عليّ أحد السؤال التالي: أين الآباء؟ في الحقيقة، الآباء أشخاص يخرجون مع الفتيات، ويتسبّبون في حَملهن، ثم يقولون لهن: "لا، هذا ليس طفلي. أنت تمارسين الدعارة. ماذا يثبت لي أنه طفلي؟". تخوض الفتيات المعركة من دون آباء، ولا يبالين بنظرات الآخرين.

بالنسبة إلى الأطفال، إنّهم يتمتّعون بذكاء خاص، لا يراه الناس. يلاحظون ما تفعله الأمهات عندما يحضّرن الخضار أو السباغيتي، ويقلّدونهن. يخلق عيشهم معاً نوعاً من الذكاء، لأنهم لا ينتمون إلى شخصٍ واحد أو شخصين، بل إلى مجموعة. لذلك، كنت أقول لمدير التصوير (بيار لافال ـ المحرّر): "لا تصوّرهم وقوفاً. هذا يظهرهم صغاراً". نزل تماماً إلى مستوى نظراتهم، للحصول على الصُور التي في الفيلم.

 

(*) هناك عمل رائع على الزمن الخاصّ بالفتيات والأطفال والمرأة العجوز. كيف تعاملت مع هذه الأخيرة وصوّرتها؟

الوقت الذي أمضيته معها مفتاح هذا. عندما أذهب لرؤيتها في بداية اليوم، أحيّيها، وأسأل عن أسرتها، وأبدأ المراقبة. في الواقع، لم يكن لدى "الجدّة" (لقب يطلق على السيدات الطاعنات في السن في بعض دول أفريقيا جنوب الصحراء ـ المحرّر) الكثير لتفعله في النهار. كانت تتنقّل بين غرفتها والشرفة، وعندما يتحوّل اتّجاه الشمس، تغيّر مكان جلوسها. في الصباح، تخرج من المنزل لتقوم ببعض الأشغال، ثمّ تعود. هذا كلّ شيء. في الليل، تعتني بالأطفال. لم يكن لديها مشكلة في مسايرة التصوير، بعد تبديد سوء الفهم بيننا، لأنها هي نفسها عانت الإهانات والتشهير، لأن الناس يقولون إنّها هي من تُشجّع الفتيات على ممارسة الدعارة، بينما أنها لا تصدر أيّ حكم عليهن. صحيح أنها تحصل على 1000 فرنك أفريقي شهرياً عن كلّ طفل، لكنّها لا تفعل هذا فقط من أجل المال.

أردت تبيان أنّ شيئاً من هذا لا يزال موجوداً في أفريقيا. لو كانت في أوروبا، لأخذوها إلى دار رعاية المسنّين، وربما لن تتمكن حتى من الاعتناء بنفسها. هنا في أفريقيا، يمنحنا الحب القوّة للاستمرار في الاعتناء بالآخرين. رعاية 4 أو 5 أطفال في الوقت نفسه مهمة صعبة للغاية، خاصة مع الرضّع حديثي الولادة، المنضافين إليهم. يتحرّكون طول الوقت، ويمسكون بما في يديها، ويتململون، وينامون قليلاً جداً. تساءلت دائماً: كيف سأصوّر كل هذا.

 

(*) يوجد في "حضانة ليلية" اختلاط كثير بين الفتيات. نرى أيضاً درجة معيّنة من العري في أجسادهن، كما عندما يُطعمن الرضّع من أثدائهن. لكنّك تحرص كثيراً على الحفاظ على خصوصيّتهن، في نومهن مثلاً.

هذا ضروري. أولاً، لأنّ الموافقة على تصوير فتاة ليل، أو عاملة في الجنس، ليس قراراً سهلاً. لن يرى شخص واحد فقط ذلك، بل الآلاف في العالم كله سيعرفون أنّها تفعل هذا. إنّه اعتبارٌ يجب احترامه. بالنسبة إليّ، ليس لأنهن فتيات ليل، أُظهر للناس عريهن. في وقت ذهابهن إلى غرفة النوم، يكنّ شبه عاريات. حتى الملابس التي يرتدينها، تنكشف عند تقلبهن في الفراش.

لكنْ، بما أنّي أمضيت وقتاً كثيراً معهن، اعتدت ذلك. أخبرهن أنّي سأصوّر صباح اليوم التالي، مُردفاً: "من فضلكن، لا تغلقن الباب هذه الليلة". عندما أصل، وبينما يُعدّ الفريق الكاميرات والصوت، أدخل إلى غرفة النوم بهدوء، لتفقد الأمور. عندما يكنّ عاريات، أسحب الغطاء لستر أجسادهن، ثم أخرج لأسمح للفريق بالدخول. لدي احترام وتقدير كبيران لهن. يجب ألا تسيء استخدام الثقة التي منحنها لك.

 

(*) زاوية النظر إليهن من ارتفاع الأطفال تساهم أيضاً في تجنّب التلصّص، لأنهن في هذا الوقت أمهات، لا عاملات جنس.

بالتأكيد. شكراً لك. لسن عاريات حتى عندما نراهن في الشارع. إنهن يرتدين ملابس أنيقة.

 

(*) هناك أيضاً شعور بوجود تفاوت مقصود بين برنامج الفتيات وفريق التصوير. أحياناً، يسبقهن الفريق عند المرأة العجوز، وأحياناً يصل الفريق بعد أنْ يخلدن إلى النوم. متى وضعت هذا البرنامج؟ أكان ذلك عاجلاً أم آجلاً في التصوير؟

لم يستغرق الأمر وقتاً طويلاً، لأنّي عادةً أعرف الوقت الذي يأتين فيه عند السيدة العجوز. قبل ذلك، تُعدّ الأخيرة مفارش الأرض، وتُميط الأشياء المؤذية لاستقبال الأطفال. يبدو الأمر مطعماً يتهيأ لفتح أبوابه. هي ترتّب وتجهّز كلّ شيء. نذهب إلى هناك قبل موعد وصولهن. أحياناً يأتين معاً، وأحياناً الواحدة تلو الأخرى، بحسب كلّ يوم، واختلاف مواعيدهن.

 

(*) مع مقدار المادة الفيلمية التي حصلت عليها، كان مُغرياً صنع فيلم مدته 90 دقيقة، أو أكثر. لكنك أظهرت عملاً صارماً في التركيز، بإزالة المشاهد المكرّرة مثلاً، للاحتفاظ بـ67 دقيقة فقط. هل قرّرت هذا باكراً جداً، أم في المونتاج؟

حدث هذا في المونتاج، لأننا صنعنا نسخاً كثيرة قبل تحقيق النسخة النهائية. وضعنا مشاهد تحضيرية (استعداد الفتيات للخروج، إعداد العجوز للمنزل، إلخ.) كافية في البداية، لكنّي لم أرغب في تكرارها أكثر من اللازم. ينبغي أنْ تثق بالمتلقّي، وأنْ تقول لنفسك إنّ من يشاهد جيّداً، سيفهم. كما عندما أظهرت بشكل عابرٍ أنّ السيدة العجوز تستلم نقوداً من إحداهن. هذا كافٍ ليعلم الناس أنّها تأخذ شيئاً ما مقابل الاعتناء بالأطفال، ولا يتعيّن عليك إظهار ذلك كلّ مرة.

 

(*) هل كنت موجوداً طول الوقت مع المونتير فرنسوا سكولييه؟

نعم، كنت هناك منذ البداية. استغرق المونتاج نحو شهرين. أجرينا أولاً مونتاجاً مسبقاً، ثم ناقشته كثيراً معه، لأنّ هناك اختلافاً وتكاملاً بين رؤيته الأوروبية ورؤيتي الأفريقية. لم يكن هناك فقط ليلصق مشهداً بآخر. ناقشنا كلّ مشهد بدقة. يمكننا أحياناً، في المونتاج، أنْ نتحدّث لساعتين أو 3، من دون لمس الحاسوب. أشيد به، لتقديمه لي أفكاراً جيدة كثيرة.

المونتاج الجزء الأعظم من العمل. لاحظتَ حتماً أنْ لا وجود لسؤال الفتيات عن سبب عملهن في الدعارة، أو أشياء من هذا القبيل. الناس يفهمون ما يجري. يحسّون أنّ حياتهن ليست فرحاً، لكنهن يُسعدن أنفسهن كلّما استطعن، ويتحمّلن المسؤولية عن أنفسهن وأبنائهن. يرقصن بين الفينة والأخرى، ويأكلن معاً. ناقشنا كيفية إظهار كلّ ذلك في المونتاج.

 

 

(*) قصة الفتاة التي فرّت وتخلّت عن طفلتها شارلوت للسيدة العجوز، الوحيدة التي تضفي على الفيلم شعوراً بحبكة. يبدو لي أنّ هذا أساسي في الفيلم الوثائقي، لأنّه يبعث نوعاً من الفضيلة فيه. هل عملت على هذا المشهد بهذه الروح، بحيث يكون منظّماً للسرد؟

المشهد حصل في اليوم الـ3 من التصوير. لكنْ، قبل وروده، نرى السيدة العجوز تقول إنّها "عهدت بأمر شارلوت إلى ذلك السيد". في الواقع، كانت تشير إليّ. قبل ذلك، قالت إنّ ما يقلقها أنّ والدتها تخلّت عنها منذ عام كامل. طلبت منها أنْ تحتفظ بالطفلة إلى أنْ تبحث عن عملة صغيرة، وتعود. لكنّها لم تعد. ضمنت المساعدة في رعاية شارلوت. في اليوم الـ3 للتصوير، السبت، لن أنسى ذلك أبداً، لأنّه تزامن مع عيد ميلادي. لم يقل لي أحدٌ "عيد ميلاد سعيد"، أو أعطاني هدية بعد. كنت هناك أصوّر. أخبرت المصوّر ألاّ يتوقّف، إلى درجة أنّه غضب مني، لأنه لم يكن يعرف لماذا أصرُّ على ذلك، بينما لا يحدث شيء.

في الواقع، علمت أنّ الفتيات يأتين باكراً يوم السبت، لأنّ لديهن فرصاً أكثر للعمل، وينبغي عليهن الإسراع لربح أقصى ما يمكن. دهشتي الكبيرة عندما رأيت فتاة تدخل المنزل مع حقيبة سفر، وطفل يساعدها في حمل حقيبة أخرى، فبدأت السيدة العجوز بالصراخ بلغتي (الموري ـ المحرّر): "كيف تتخلّين عن طفلةٍ لمدة عام، ثمّ تصلين هكذا كأن شيئاً لم يحصل؟". عندها فقط، علمت أنّ شيئاً ما حدث. ركضت نحوهما، وفي غمرة الأحداث، طلبت من الفتاة أنْ تجلس لترتاح، ثمّ صوّرنا النقاش بينها وبين السيدة العجوز. وإذْ بهذه الأخيرة تقول: "لن تنام الطفلة ليلةً أخرى هنا"، فصحت فوراً: "عفواً؟". نسيت أنّنا نصوّر. لذلك، تُسمع هذه الجملة في الفيلم بصوتي. لم أفكر في حدوث شيء كهذا في التصوير. إنه سحر الفيلم الوثائقي. حتى عندما كتبت السيناريوهات المحتملة، لم أفكّر في ذلك.

 

(*) يقال: "إذا كان الروائي من صنع الإنسان، فالوثائقي من عمل الله". أعتقد أنّ الصدق يجلب هذا النوع من البركات.

تماماً. شكراً لك. أعتقد أنّ الإخلاص يؤتي ثماره دائماً. العمل الوحيد للإخراج، الذي قمت به ذاك اليوم، أنّي قلت للأم: "تعالي. أقترح عليك أنْ تجلسي، والسيدة التي كانت ترعى شارلوت أمامك. اشرحي لها ما حدث، وليس لي. فقط اشرحي لها، وحاولي إقناعها". عندها، أوضحت أنّها كانت في السجن، وأظهرت الندبة التي عانتها، وتفهّمت السيدة العجوز الأمر في النهاية.

لكنْ، فيما يتعلق بحقيقة أنّ إلقاء القبض عليها تمّ بسبب أنّها لم تكن تملك ما يكفي من المال لدفع رشوة للشرطة، فلا أعتقد أنه بالإمكان حبس شخص لمدة عام لأنّه ارتكب شيئاً بسيطاً كهذا. لكنّي لم أرغب في طرح أسئلة عليها، مثل: "ما الذي فعلته بالضبط لحملهم على إيداعك السجن كل هذا الوقت؟". لا. هذه ليست مشكلتي. في اليوم التالي، جاءت الأمّ، ورغم أنها ليست من الفتيات الـ3 محور الوثائقي، تظهر في الفيلم وهي تُحمّم طفلتها، وتضع مُرطّباً على جسدها، ويمضيان الوقت معاً. هذا كل شيء. لو وضعت تفكيراً وتبئيراً كثيرين حول ما حصل، لأفسدت الفيلم. إنه شيء ذهب بالبساطة نفسها التي جاء بها.

 

(*) لافتٌ حقاً عندما تقول السيدة إنّ شارلوت "في عهدتك"، لأننا، عند سماع ذلك، وبوضع تأثير الفيلم في الاعتبار، يمكننا القول إنّ شارلوت الآن أصبحت في عهدة الجميع. مفعول الوثائقي الذي يسمح بإخراج مشكلة من شرنقة الخاص، فتصبح جزءاً من النقاش العام.

هذا صحيح. غدت شارلوت مشكلة الجميع. منذ إلزام نفسي بمساعدتها، فكّرت في الأمر. وعندما جاءت والدتها، قلت لنفسي: "آه، هذه رسالة من السماء".

 

(*) أين كان العرض العالمي الأول للفيلم؟ وكيف مرّ؟

في برلين. أحبّه الناس حقّاً، وكانوا متأثّرين. تزامن ذلك مع قيود كوفيد ـ 19، لكننا تمكّنا من السفر. ركّز الناس على أنّه يعرض أشياء تعوّدنا ألا نراها، وأنّه لا يتعلق بالوضع في بوركينا فقط، بل في أماكن أخرى أيضاً، لأنّ الدعارة منتشرة في العالم، ومعظم المتضرّرين منها نساء. كيف ولماذا ينجبون أطفالاً؟ لا أحد يعرف، لكنّ الفيلم منح مساحة تفكير في ذلك.

أما بالنسبة إلى العرض الإفريقي الأول، فكان في واغادوغو، في الـ"فيسباكو" ("المهرجان الإفريقي للسينما والتلفزيون في واغادوغو" ـ المحرّر)، وكان ناس بوركينا فاسو سعداء بوجود فيلم سينمائي حقيقي، يتناول مثل هذه القضية الصعبة.

 

(*) لم تكن هناك، كالحال معنا، ردود فعل مستاءة ورافضة، مثل: "لماذا تركّز على هذا الموضوع لإعطاء صورة سيئة عن مجتمعنا"؟

كلا. على العكس تماماً. في الواقع، أعطى الفيلم وجهاً آخر لعاملات الجنس. لأنّ الناس كانوا ينظرون إليهن فقط كعاهرات، وفتيات سوء أحياناً. الفيلم جعلهم يقولون: "أوه. في الحقيقة، إنهن فتيات طيّبات، يحاولن مثلنا أنْ يتعايشن مع متطلّبات الحياة".

أعطى "حضانة ليلية" صورة إنسانية لهؤلاء النساء. أتذكّر أنّه، عند عرضه في "فيسباكو"، كانت هناك عاملات جنس أتين لتحيّتي: "القط (لقب المخرج ـ المحررّ). شكراً جزيلاً على ما فعلته من أجلنا". لم أفهم ما يقصدنه، في البداية. فقط في اليوم التالي، عندما شكرتني إحداهن قائلةً: "شاهدنا فيلمك، وشكراً لأنّك احترمتنا بإعطائك وجهاً آخر لنا، ولتجربتنا".

المساهمون