بالنسبة إلى من يعيش في الشرق الأوسط، لن تُحدِث كلمة "حرب"، بأيّ حال، وقعاً لطيفاً على العين والأذن، لكنها أيضاً لن تُحدث صدمة. فالمنطقة ما انفكت تعيش حروباً محلية وإقليمية كلّ عام، منذ تشكّلها على الخريطة الحديثة للعالم. أما أن يكون 2022 عام حربٍ في أوروبا، التي نعمت بسلام نسبي طوال أكثر من ستين عاماً، وبناء عليه، تقدّم اقتصادها وترقّى مستوى العيش فيها، حتى بات يُنظر إلى السلام على أنه عنوان الفصل الأخير من تاريخها، فإن ذلك سيُحدث، ولا شك، أثراً عميقاً في الحياة الثقافية، والموسيقى أحد مظاهرها الرئيسية.
هكذا، ألقت الحرب الروسية الأوكرانية هذا العام بظلالٍ داكنة على الحدث الموسيقى الجماهيري الأبرز على مستوى القارة الأوروبية. فمن على مسرح يوروفيجن (مسابقة الأغنية الأورربية) التي استضافتها مدينة تورينو بإيطاليا، وعبر أغنية "ستيفانيا" لفرقة "أوركسترا كالوش"، التي تمزج نمط البوب مع الهيب هوب، مع إضافة نكهات موسيقية محلية، أطلق الأوكرانيون نداءً حضّ على التضامن، استجاب له الأوروبيون بأن منحوا "ستيفانيا" جائزة أفضل أغنية، وأهدوا أوكرانيا فوزها الثالث في تاريخ التظاهرة.
لا تقف الحرب، بتداعياتها، عند الموت والدمار وانعدام الأمن والاستقرار، وإنما تتجاوزها. بدأت آثار التضخّم في الاقتصاد العالمي تزيد من كُلف إقامة الحفلات والمهرجانات حول العالم، بينما تحدّ بالمقابل من الطلب على ارتياد الأنشطة الموسيقية، نظراً إلى انخفاض القدرة على الإنفاق لدى معظم الناس. الارتفاع غير المسبوق في أسعار الوقود أدى إلى ارتفاع غير محتمل في تكلفة السفر، وبالتالي ثمة صعوبات لوجستية تواجه استضافة عروض موسيقية أجنبية، كل ذلك بحسب موقع Festivalinsider المراقب حركة الإنتاج الفني في الولايات المتحدة.
أما الآثار الاقتصادية والمعنوية على المشتغلين في الموسيقى، فقد رصدها تقرير أعدّته جمعية أميركية تدعم الموسيقيين، Music Charity Help Musicians. ذُكر في هذا التقرير أن نسبة 91% منهم باتوا يعانون جراء زيادة الكلفة في وسائل إنتاجهم، مقابل قلّة ملحوظة في الإقبال عليه.
علمان موسيقيان من بين اللذين رحلوا هذا العام. لبنانياً المغني والملحن سامي كلارك، صاحب الصوت الحاضر في ذاكرة الثمانينيات من القرن الماضي، من خلال أغانٍ تنوعت لغاتها وألوانها، وشارات مسلسلات رسوم متحركة أحبها الكبار والصغار، كان قد رحل في مايو/أيار عن 74 عاماً.
آسيوياً، وفي شهر فبراير/شباط الفائت، فقدت الهند، وأيضاً باكستان، أيقونة الغناء السينمائي لاتا مانغيشكار، عن 92 عاماً. لاتا، التي تمدرست على أصول الغناء الماهراتي الكلاسيكي، كانت قد دخلت عالم السينما من خلال أداء الصوت الغنائي Playback في عدّة من بين أكثر الأفلام الهندية شعبيةً. لذا، عبرت جماهيرتها أقاليم البلاد، وحول صوتها اجتمع الهنود بأديانهم وطبقاتهم، وعلى محبتها كبروا وبقوا.
لعلّ ألبوم Renaissance لنجمة البوب والـ"آر آند بي" الأميركية بيونسيه (Beyoncé)، والذي صدر في شهر يوليو/تموز، هو الأكثر إثارة من بين إصدارات 2022 عن فئة الأغنية الجماهيرية الغربية. من خلال الحلول الإنتاجية الخلاقة التي يُقدمها الألبوم، مُطّبقةً بأجود الوسائل التكنولوجية المتاحة عصرياً، يقترب Renaissance من أن يكون ألبوماً ثورياً؛ خرقاً على صُعد الفكرة والبنية والنهج. لقد أعاد الإصدار إحياء "الألبوم" كشكل فني، بعد أن أخذ يذوي مقابل أثر الأغنية الواحدة المُضاعف، إثر استحواذها على منصات التدفق الرقمي ومواقع التواصل الاجتماعي. فكل أغنية فيه تُمهّد لما بعدها، لا يكتمل تأثيرها إلا بالانتقال إلى التي تليها، ليس لجهة الموضوعة فحسب، بل أيضاً لجهة التشكيل الموسيقي.
يدفع Renaissance بصوت بيونسيه بقوة نابذة نسويّة بعيداً عن شاعرية الـ"آر آند بي"، لتزخر الأغاني بطاقة وحيوية الـ"دي جيه". أما العناصر التشكيلية، من مؤثرات إلكترونية وعيّنات صوتية، فهي وافرة التنوع، شديدة التناقض والتنافر، قد صُهِرت كلها بحذق وابتكار.
عربياً، استمر اجتياح المغرب للمشرق بالراب. كما كانت حال الراي الجزائري زمن تسعينيات القرن الماضي، صار الراب المغاربي Rap Maghreb يُسمَع من على كل راديو عربي موجيّ أو رقمي، كل حفلة منزلية وفي كل سيارة. نجوم، كمحمد صلاح بلطي من تونس، ديدين كانون من الجزائر، وطوطو من المغرب، سجّلوا صعوداً مطّرداً منذ العشرية الأولى للقرن الحالي، ولا تزال أغانيهم تتصدر قوائم الأكثر استماعاً في أنحاء المنطقة الناطقة بالعربية.
تنوعت أساليبهم لتتراوح ما بين النظم الثقيل المنتظم مسحوب النغم، والشاعري الغنائي الأقرب للبوب. أما الموضوعات، فقد تباينت بين شبابية تصوّر مشاهد من حياة المراهقين المغاربة بين شمال أفريقيا والمهجر الفرنسي، أو رومانسية، تحكي قصصاً عن الوصال والانفصال.
كما استمرت عودة نجوم الماضي القريب بين الحين والآخر. طرحت المطربة السورية أصالة نصري ألبوماً صغيراً بنكهة خليجية تحت عنوان "لا تشكو للناس"، سجّلت من خلاله تعاوناً مع الملحن السعودي المعروف بـ د. طلال. كما رفع المغني اللبناني عاصي الحلاني على "يوتيوب" أغنيتين مصورتين هذا العام، هما "ضحكة حبيبي" و"أربعين خمسين".
يبقى ظهور الفنان السوري جورج وسوف أخيراً، على الرغم من المتاعب الصحية، بأغنية مصورة، هي "بيتكلم عليا"، الأكثر جلباً للأسماع والأنظار، نظراً للقاعدة الجماهيرية العربية العريضة التي حققها وسوف خلال مسيرته الفنية التي استمرت عقوداً من الزمن.
وإن كان عام 2022 عام الحرب الروسية الأوكرانية والأزمة الاقتصادية العالمية التي تتفاقم اطّراداً، إلا أنه كان أيضاً عام الأمل بنهاية واعدة، وإن لم تكن بلا انتكاسات، لحرب العالم على فيروس كورونا والجائحة العالمية التي تسبب بها، وتعطّلت بموجبها مواسم الحفلات والمهرجانات.
من الأدلة على عودة الحياة التدريجية إلى سابق عهدها، كان مونديال قطر خريف هذا العام. مناسبةٌ كونية لم تكتف بكونها التظاهرة الرياضية الأكثر جماهيرية، وإنما كان لها أيضاً حضور على لوائح الأغاني العربية والعالمية الأكثر رواجاً على طول فترة التنافس. بداية بـ "هيا هيا"، أوّل الإصدارات بصوت البريطانية سلوى لورين، وليس انتهاءً بـDreamers، بتشاركٍ جمع نجم فريق الـ BTS الكوري الجنوبي جونغكوك مع المغني والمُنتج القطري فهد الكبيسي.