موسى أبو عصبة... تطويع الحديد لحماية تاريخ فلسطين

09 اغسطس 2023
خلال عمله على مجسم "ظريف الطول" (الأناضول)
+ الخط -

لأكثر من أربعة أشهر متواصلة، عمل الفنان التشكيلي موسى أبو عصبة (58 عاماً) من قرية برقة، شمالي الضفة الغربية المحتلة، على إنجاز مجسم حديدي يزن أكثر من 70 كيلوغراماً للشهيدة الصحافية شيرين أبو عاقلة، "تخليداً لذكراها وانتصاراً للقضية العادلة التي قدمت روحها من أجلها"، كما قال في حديث مع "العربي الجديد"، معرباً عن سعادته بما قام به، ضمن مسعاه لتخليد الشخصيات التراثية والوطنية.

صوّر المجسم الجزء العلوي من جسد أبو عاقلة، وهو مصنوع من الحديد الثقيل، وقد راعى أبو عصبة أدق التفاصيل في حفر الوجه والشعر والعيون، كما وضع مجسماً لميكروفون في دلالة على أنها "كانت توصل صوت المظلومين وتعري جرائم الاحتلال الإسرائيلي"، وفق قوله.

وأشار أبو عصبة، الذي يعمل في مهنة الحدادة منذ أكثر من خمسة وعشرين عاماً، إلى أنّه تأثر باغتيال أبو عاقلة، كملايين من الناس حول العالم، و"قرّر أن ينجز شيئاً يليق بتضحياتها". ورأى أنّ أبو عاقلة لا تقل أهمية عن شخصيات ورموز فلسطينية سبق أن أنجز مجسمات لها مثل "جفرا" و"ظريف الطول".

وقال: "شرعت بالعمل على صناعة مجسم لشيرين أبو عاقلة، فاخترت أفضل وأقوى أنواع الحديد، المقاوم للصدأ والظواهر الطبيعية، خاصة أن العمل سيعرض في الهواء الطلق، وبدأت بتطويعه وقصّه وثنيه، وكنت استرشد بصورة شخصية لها".

وأشار إلى أن تحويل الحديد إلى مجسمات فنية "يحتاج إلى وقت طويل وهمة عالية، وأدوات تعين على تشكيله بعد تسخينه على درجات حرارة عالية". وقال: "إن الأمر ليس سهلاً، ويحتاج إلى صبر وقوة وعمل متواصل، إلى جانب الدقة البالغة، خاصة إن كانت الشخصية معروفة مثل شيرين وليست رمزية".

واجتهد أبو عصبة في سبيل إنجاز المجسم قبل موعد الذكرى الأولى لاغتيال أبو عاقلة في مايو/ أيّأر الماضي، لكنّه تأخر قبل أن يتمه على أكمل وجه، وهو يأمل أن تتبناه عائلة الراحلة ومحبيها، وأن يوضع كنصب تذكاري في موقع استشهادها على أطراف مخيم جنين.

بدأ مشوراه مع تصميم مجسمات حديدية قبل أعوام طويلة، مستفيداً من مواهبه في الرسم والنحت. المشوار الذي بدأ بصنع فزاعة ضخمة لحماية أرضه الزراعية من الطيور والحيوانات، تطوّر بعد أن اقترح عليه أحد مغتربي قريته أن يصنع مجسمات للرموز الوطنية والتراثية.

ووقع اختياره في البداية على شخصية ظريف الطول، أحد أبرز أبطال قصص التراث الفلسطينية، والذي يرمز إلى الفلاح الفلسطيني بلباسه التراثي وبالأداة الزراعية التقليدية، الشاعوب، للدلالة على التجذر بالأرض. استخدم أكثر من 160 كيلوغراماً من الحديد، لينجز العمل بشكل نهائي.

وفي الأدبيات الفلسطينية، ترمز شخصية ظريف الطول إلى شاب فلسطيني وهب روحه للأرض التي احتضنته ووهبته كل حبها، إنه الشاب الفارع الطول، ذو العينين السوداوين، والشعر الأسود الثائر، والجسد الحي النابض بالرجولة، الذي لم تصرفه بنات القرية كلهن عن حبه لأرضه وعشقه لها، والتي من أجلها كان يسخر كسب عرقه وتعبه في محل النجارة لشراء السلاح ويوزعه على شباب قريته لصد الاعتداءات المتكررة للعصابات الصهيونية التي تغير عليهم من وقت لآخر.

لاحقاً نصب المجسم على مدخل الحي القديم في قرية برقة الفلسطينية، ولاقى استحساناً كبيراً من أبناء وضيوف القرية، ممّا شجع أبو عصبة على مواصلة مشواره.
وقال الفنان: "صار التحدي أكبر. وبعد جهد جهيد وقع الاختبار على شخصية جفرا، التي ترمز للمرأة الفلسطينية الصامدة فوق أرضها".

خلال عمله على المجسم كان أبو عصبة يردّد كلمات الأغنية: "جفرا يا هالربع بين البساتين، مجروح جرح الهوى يا مين يداويني، هي يا حاملة الجرة ميلي واسقيني، بلكن يطيب الجرح ع يد البنية".

واحتاج إنجاز العمل عدّة أشهر و200 كيلوغرام من الحديد، بحسب أبو عصبة، الذي أضاف: "صنعت مجسماً لسيدة ترتدي ثيابها التراثية، وبضفيرتين منسدلتين على كتفيها، خاصة أنها كانت معروفة بجدائل شعرها الطويل، وهي تحمل مصباحاً كأنها تنير الطريق لغيرها، فالأغنية تقول: واشعلي سراجك عالعالي وردي ظلم الليالي والظالم لازم يزول".

وقال إنّ عمله مرتبطٌ أيضاً باعتداءات المستوطنين على قريته مؤخراً: "برقة كانت منذ بداية الثورة الفلسطينية مشعلاً للثوار، وخلال كل مراحل النضال واجهت بكل بسالة، لكن ما تتعرض له اليوم يختلف كثيرا، فهي في معركة ضد قطعان المستوطنين، الذين يريدون العودة لمستوطنة حومش المخلاة المقامة على أراضي قريتنا، وقد أوغلوا خراباً وفساداً".

وتابع: "التعويل اليوم على الجيل الناشئ، وواجبنا أن نخلق لديه وعياً وطنياً ونستمد ذلك من تاريخنا المشرف ونضالنا الذي لم يتوقف، فهو حين يرى مجسمات لشخصيات يسمع عنها في الأغاني التراثية، فيربط بين ما يسمعه والواقع المعاش، فيزداد قوة ويقينا على المواجهة".

وشدّد أبو عصبة على أن هذه المجسمات الوطنية "ليست أصناماً كما حاول أن يروّج البعض" بل الهدف منها "تعزيز الانتماء الوطني والمحافظة على أصالة التراث الفلسطيني".

المساهمون