تنعقد الدورة الجديدة (17 ـ 28 مايو/أيار 2022) لمهرجان كانّ السينمائي في ظرفٍ استثنائيّ، يُحتّم على المنظّمين توجّهين، يتناقض أحدهما مع الآخر، إلى حدّ ما: الاحتفال بالذكرى الـ75، بإعطائها زخماً احتفائياً يُحاكي برامج الدورات التي أحيت هذا النوع من الذكرى سابقاً، كما في الدورتين الـ50 (7 ـ 18 مايو/أيار 1997) والـ60 (16 ـ 27 مايو/أيار 2007)؛ والعودة إلى نسق الدورات العادية، بالنسبة إلى عدد الأفلام، بعدما سجّلت الدورة الماضية (6 ـ 17 يوليو/تموز 2021) رقماً قياسياً للأفلام المُبرمجة، بلغ 150 فيلماً، للتعويض عن دورة عام 2020، التي أُعلن عن إلغائها بسبب كورونا، قبل تنظيمها في صيغة مُصغّرة (27 ـ 29 أكتوبر/تشرين الأول).
لعلّ السعي إلى التخلّص التدريجي من تداعيات فيروس كورونا على قطاع السينما، وشبح عدم انعقاد المهرجان للمرّة الثالثة في مساره، الغنيّ بالمنعرجات والتقلّبات، يُذكّر بمحطّات بارزة، بدءاً من تأسيسه عام 1939، بمبادرة من وزير التربية الوطنية والفنون الجميلة، الفرنسي جان زاي، كردٍّ على تدخّل الحكومتين، النازية والفاشية، في ألمانيا وإيطاليا، في انتقاء أفلام مهرجان فينيسيا السينمائي (لا موسترا) حينها. لكنّ انعكاسات بوادر الحرب العالمية الثانية (1939 ـ 1945) حالت دون تنظيم الدورة الافتتاحية، التي تأجّلت إلى عام 1946.
تدريجياً، يغدو المهرجان قِبلةً للسينما العالمية، بفعل جاذبية أجواء المدينة وشطآن الريفييرا، ومُساندة غير مشروطة من أقطاب السينما الغربية، وعلى رأسها أميركا، والوضع الامتيازي لفرنسا، كمهدٍ للسينما وتقاليدها الراسخة في النقد والـ"سينفيليا".
يتخلّل مسار تكريس المهرجان، كأهمّ تظاهرة سينمائية في العالم تحظى بأكبر تغطية صحافية بعد الأولمبياد وكأس العالم لكرة القدم تواريخ مهمّة، منها ابتكار "السعفة الذهبية"، كأسمى مكافأة لتعويض الجائزة الكبرى للمهرجان، عام 1955؛ ثمّ إنشاء أول سوق للأفلام، لتسهيل معاملات صناعة السينما؛ وخفض الاعتبارات الوطنية في اختيار الأفلام، عبر اعتماد لجنة انتقاء في بداية سبعينيات القرن الـ20، ليصبح "كانّ" الوجهة المُفضّلة لأفلام ألمع مخرجي السينما، كالإيطاليين فديريكو فيلّيني ومايكل أنجلو أنتونيوني، والسويدي إنغمار برغمان، والإسباني لويس بونويل.
عام 1962، دُشِّن "أسبوع النقاد" كأول قسمٍ موازٍ للمهرجان، يعرض الأفلام الأولى والثانية لمخرجيها. تلاه قسم "أسبوعا المخرجين"، الذي نشأ بمبادرة من بيار هنري دولو، عن مجموعة مخرجي الأفلام، تحت شعار "السينما الحرّة". تبرز أيضاً محطة "أيار 1968" (انطلق "أسبوعا المخرجين" في ظلّها)، حين اكتشف المنظّمون ـ في صدمةٍ أجبرتهم على إيقاف الدورة الـ21 في 19 مايو/أيار، قبل موعد انتهائها (10 ـ 24 مايو/أيار) ـ أنّ المهرجان، على غرار فرنسا كلّها، يحتاج إلى دماء جديدة في شرايينه.
في العقدين الموالين، اكتسب الحدث الفني الأبرز عالمياً تموقعاً ذكياً يوازن، بدقّة وصعوبة، بين الرهان الضروري والأساسي على الجانب الفني، وطلائعيّة الدور الذي يلعبه المهرجان في هذا الجانب، بفضل اختياراته وجوائزه، من دون إغفال مسألة إفساح المجال أمام أفلامٍ تتناول القضايا السياسية والإنسانية التي تشغل العالم، ومراعاة متطلّبات الانتشار الإعلامي، من خلال الاحتفاء بالنجوم والسينما الجماهيرية أيضاً، متميّزاً بفضل ذلك عن مهرجان فينيسيا (لا موسترا)، المعروف بمنحه حيّزاً أكبر للأفلام المتطرّفة في النوع والبحث، على مستوى الشّكل، وعن مهرجان برلين (برليناله) الذي اعتاد تغليب الوازع السياسي في اختياراته.
يظلّ جيل جاكوب، الذي شغل مهمة المندوب العام لأكثر من عقدين، أبرز شخصية طبعت المهرجان، بتركيز اختياراته على السينما في بُعدها الكوني المنفتح على العالم بأسره، بما في ذلك البلدان الصغيرة، وعبر تسليط الأضواء على الممثلين والمخرجين أكثر من المنتجين والسياسيين.
مع جاكوب، بدأ القَطع مع عادة منح رئاسة لجنة التحكيم لشخصيات من خارج مهنة السينما- وساند حرية تعبير المخرجين- وإعطائهم فرصة عرض أفلامهم الممنوعة في بلدانهم الأصلية، لأنّها تنتقد أنظمة سلطوية أو مُضطهِدة. كما اتّخذ قرارات جريئة ومُجدِّدة، كابتكار جائزة "الكاميرا الذهبية"، التي تكافئ أفضل فيلم أول، وخاصة قرار فتحها على كلّ الأقسام، في محاولة لسحب قليلٍ من أسبقية اكتشاف المواهب الجديدة من "أسبوع النقاد"، قبل أنْ يُحدِث، عام 1978، قسمه الثانوي الخاص، باسم "نظرة ما"، لاستقبال أفلامٍ أكثر هشاشة وخصوصية من تلك المتواجدة في المسابقة الرسمية، أغلبها لمخرجين مبتدئين، تمنح المنظّمين شبكة أمانٍ، تتيح إفلات أقلّ عدد ممكن من الأفلام الفارقة والمتفرّدة، وفاءً لتقليد منافسة شديدة وغير معلنة بين الجناحين الرسمي والموازي للمهرجان، تصبّ ـ في نهاية المطاف ـ في مصلحة هذا الأخير.
أمّا تييري فريمو، فطَبع ـ عند تسلّمه الإدارة الفنية عام 2003، قبل اختياره مندوباً عاماً منذ عام 2007 ـ برمجة "كانّ" باختيارات "سينفيلية" قوية، أهمّها تدشين فقرة "كانّ كلاسيك" عام 2002، فلاقت نجاحاً وإقبالاً كبيرين، ثم إعطاؤه مكانة أكبر لسينما التحريك وأفلام النوع، تكلّلت بحصول أفلامٍ ـ مُتجذّرة في مقاربة النوع الفيلمي ـ على "السعفة الذهبية"، في الأعوام الأخيرة. كما حرص على منح الفيلم الوثائقي حيّزاً أهمّ، بإنشاء جائزة "العين الذهبية"، بالتعاون مع جولي برتوتشيلي، عام 2015.
لم يخلُ تاريخ مهرجان كانّ كذلك من حوادث وفضائح وقراراتٍ، ملأت الإعلام وشغلت الصحافة، مُساهمة في إشعاع الحدث وذيعان صيته. ولعلّ أكثر أشكال الجدل ثباتاً ذاك الذي يتلو الإعلان عن جوائزه، فتختلف حدّتها من مجرّد خلاف على الأفلام ومدى حقّها في الجوائز، إلى اتّهاماتٍ لأعضاء اللجنة بالانحياز، أو تغليب المصلحة الذاتية، وحتّى تضارب المصالح. هذا الاتّهام الأخير امتدّ إلى انتخاب إيريس كنوبلوك رئيسةً جديدة للمهرجان، خلفاً لبيار لوسكور، ابتداءً من الدورة الـ76، بحكم ترؤسها الفرع الفرنسي لمجموعة Warner Brothers الأميركية، لـ15 عاماً.
تحدّيات جديدة سيواجهها الثنائي كنوبلوك ـ فريمو، أوّلها تجدّد نقاش المناصفة بين الجنسين في ظل حراك نسوي تتوسع وتتشعب آثاره المجتمعية، والصيغة التي ينبغي أنْ يأخذها الحرص على رفع التمثيل النسائي، من دون الإضرار بالمستوى الفني وشرط الجودة؛ ثم التغيّرات العميقة التي تعرفها عادات المُشاهدة، في الأعوام الأخيرة، مانحةً ثقلاً ونفوذاً أكبر لمنصّات العرض التدفّقي، ومؤجّجةً الجدل حول المكانة التي ينبغي أنْ تُمنح لها في المهرجان، بعد إصرارها على تجاهل شرط الخروج في الصالات حتى يتمّ انتقاؤها، وحزم مجلس إدارة المهرجان في عدم التنازل عن هذا الشرط. متغيّرات عصر جديد، ليس هناك ما يدلّ عليها أكثر من الشراكة التي تمّ عقدها مع "تيك ـ توك"، لتقديم محتويات من يوميات المهرجان وكواليسه إلى المشتركين في الشبكة.
مياهٌ كثيرة تدفّقت تحت جسور المهرجان، منذ فكرة إنشائه، حفاظاً على حرية الإبداع في مواجهة تنامي الفاشية، منذ منتصف القرن الماضي، إلى الدورة الـ75 هذه، حيث تجد السينما نفسها في مفترق طرق مُحيّر، ومتغيّرات عصرٍ تهدّد بالعصف بطقس المشاهدة الجماعية في الصالات، الواقع في قلب تصوّرها الفني والجمالي. جدلٌ شائك ومُقسِّم، سيكون مهرجان "كانّ"، من دون شكّ، مسرحاً له في الأسبوعين الأخيرين من الشهر الحالي، وستلعب نتائج هذه الدورة الجديدة وهوية الفائزين، ومخرَجات نقاشاتها، دوراً في تشكيل معالم سينما القرن الـ21.