في الدورة الـ26 (10 ـ 20 مارس/آذار 2022) لـ"مهرجان صوفيا السينمائي الدولي"، عُرضت أفلام روائية، طويلة وقصيرة ووثائقية، مميّزة، استأنف بها المهرجان انعقاده المعتاد في موعده السنوي نفسه (مارس/آذار)، بعد إلغاء دورة العام الماضي، وتأجيل دورة العام السابق عليه بسبب كورونا.
في الدورة هذه، هناك 165 فيلماً من 56 دولة، موزّعة على مسابقات عدّة: الدولية، وسينما البلقان، والأفلام الوثائقية الدولية، والأفلام القصيرة البلغارية؛ إلى تظاهرات أخرى. وبعد حفلة الختام، أُعلن أنّ نحو 60 فيلماً منها ستظلّ متاحة للمُشاهدة المدفوعة على الموقع الإلكتروني للمهرجان حتّى نهاية إبريل/نيسان الحالي.
تتضمّن "المسابقة الدولية"، الخاصة بالأفلام الروائية الطويلة، 10 أفلام من بلغاريا وروسيا وألمانيا وتركيا وإيطاليا والدنمارك وغيرها، فاز منها "يناير"، للبلغاري أندري إم باونوف، بجائزة أفضل إخراج. يعتمد الفيلم، بشكل فضفاض، على مسرحية بالعنوان نفسه (1974)، للأديب البلغاري يوردان راديتشكوف. يبدو السيناريو (باونوف وأليكس باريت) أنّه يُحيل إلى التاريخ السياسي لبلغاريا، وإلى حاضرها الغامض خاصة، وإلى الجنس البشري ومصيره المجهول عامة، في قالب سينمائي مليء بالغموض والإثارة والتشويق، مع تصوير سينمائي خلاّب بالأسود والأبيض، وموسيقى تصويرية رائعة.
تدور أحداثه في الشهر الثلجي يناير/كانون الثاني، عندما يستحيل على أي شخصٍ أنْ يدخل الغابة لشدّة تساقط الثلج. في كوخ جبلي بعيد، شبه مهجور، يحاول الحارس (صموئيل فينزي) حلّ الكلمات المتقاطعة، مع الرجل العجوز (يوسف سورتشادجييف). ثالثهما غرابٌ أسود في قفص، يشرب أكواب العرق بشراهة. يقطع التوائم (زاهاري باهاروف وسفيتوسلاف ستويانوف) عزلتهما، لحاجتهما إلى جرّار مالك الكوخ (بيتار موتوروف)، لسحب جرّافات الثلج العالقة، الخاصة بهما. لكنّ موتوروف غادر إلى المدينة عبر الغابة، صباحاً، على زلاّجته. لم يره أحدٌ يغادر، لكنّ الثلج المتساقط لم يمح آثاره كلّها. بعد قليل، تعود الزلاّجة من دون موتوروف، ويعثر الرجال على معطفه وبندقيته فقط، وعلى جثّة مجمّدة لذئب. أين بيتار موتوروف؟ ماذا حدث له؟ لا أحد يعرف.
ينضم الكاهن (ليونيد يوفتشيف) إلى هذه المجموعة الغريبة التي تنتظر، بشكلٍ غامض، بيتار موتوروف. يتهامسون بقصص حول الـ"تينيتز" (الشبح، بحسب اللهجة البلغارية الشمالية الغربية). واحداً تلو آخر، يُقرّر الرجال الذهاب إلى الغابة المظلمة لمعرفة ما يحدث، أو لبلوغ المدينة، أو للعثور على موروتوف. لكنْ، في كلّ مرّة، تعود الزلاّجة بذئب متجمّد فوقها، وبندقية. يتكرّر الأمر. في لحظة ما، تبدأ الحبكة في الانغماس في عبثٍ مظلم، ويظهر كيف علق 5 رجال في مأزق حقيقي بين الحياة والموت، والماضي والحاضر، والشيوعية والرأسمالية، وغيرها من الثنائيات المتناقضة. يحاولون حلّ اللغز الذي يلتهمهم ببطء.
حوارات الفيلم قليلة، لكنّها تصل مباشرة إلى صلب الموضوع. الشخصيات الغامضة، وبحثها عن المجهول، وعدم الخشية، تضفي كلّها جمالاً فنياً أصيلاً على الأحداث. عندما تتحرّك الكاميرا الاستكشافية (فسكو فيانا)، بعيداً عن الوجوه، في جولة في المناطق المحيطة، تظهر صورٌ مهجورة للقادة الشيوعيين السابقين، بين زجاجات فارغة من الكحول، وأكوام من العناصر المكسورة غير المستخدمة، في إشارة إلى بقايا الماضي غير المُعالج وغير المتصالح معه. فكرة الفيلم توضح، على المستوى العالمي، الخوف من الموت، وتوقّع كارثة كونية. أما بالنسبة إلى شخصية بيتار موتوروف التي لا تزال غائبة، فيعتمد الجميع عليها. إنّها إشارة، ربما، إلى انتظار/اعتماد البلغار، أو البشر، على غودو جديد، يظهر أو لا يظهر.
في "سينما البلقان"، الخاصة بالأفلام الروائية الطويلة من منطقة البلقان، هناك 10 أفلام من رومانيا وصربيا وكرواتيا ومقدونيا واليونان وتركيا وغيرها، فاز بينها "مورينا"، للكرواتية أنتونيتا ألامات كوسيغانوفيتش، بجائزة أفضل فيلم. بجمالٍ خلاّب، تدور أحداثه في قرية ساحلية على شاطئ الأدرياتيكي في كرواتيا، في إطار دارما عائلية نفسية، شديدة القوّة والتكثيف والعمق والإقناع، تجلّى فيها الأداء التمثيلي المتناغم على أكمل وجه. أبرز السيناريو (كوسيغانوفيتش وفرانك غرازيانو) قوّة الشخصيات، ودرجات حدّتها وتوترها، ما أهّله بجدارة لنيل جائزة "الكاميرا الذهبية"، في الدورة الـ74 (6 ـ 17 يوليو/تموز 2021) لـ"مهرجان كانّ السينمائي".
تدور الأحداث البسيطة في بلدة صيد هادئة، مع غوليغا (غراسيجا فيليبوفيتش)، ذات الأعوام الـ16. ابنة مراهقة ومتمرّدة، سئمت الشعور بأنّ منزلها وبلدتها أشبه بسجن. والدتها نيلا (دانيكا كورسيتش)، الجميلة المحاصرة وغير السعيدة، تكبرها بـ10 أعوام. المصدر الرئيسي للتوتر في الأسرة، نابعٌ من آنتي (ليون لوسيف)، والد غوليغا المُسيطر والمُستبدّ، الذي يصعب قياس مدى إساءة معاملته ودرجة فظاظته. رجل يتوقّع الخضوع والطاعة من نسائه. يُقلّل من غوليغا، ويحتقر أي طموحات لديها إلى أي شيء، باستثناء ما خطّطه لمستقبلها.
مع تطوّر الأحداث، تبدأ غوليغا تتأرجح تحت سلطته الاستبدادية. يظهر تمرّدها في نواحٍ صغيرة: تتغاضى عن الذهاب معه إلى الصيد بالرمح، وتُحرجه عندما يطلب منها إلقاء قصيدة كترفيه لضيوفه، وغير ذلك. لكنّ غضبها ينصبّ على والدتها أيضاً، إذْ تلومها لكونها لا تزال مع والدها حتّى اللحظة، ولم تهجره. تبرز عقدة إلكترا بشكلٍ أقوى، مع وصول خافيير (كليف كورتيس)، الصديق الثري الوسيم لآنتي، الذي له تاريخ رومانسي قديم مع نيلا. إنّه نموذج الرجل القادم مُزيّناً بالزهور، وببريق وعود لن يفي بها أبداً، ثم يختفي. وهذا في مقابل آنتي، الذي لا يعد بشيءٍ سوى الهيمنة والقسوة، لكنّه يحاول أن يكون على المسار الصحيح. وصول خافيير يُعقّد الأمور أكثر، ويُفقد الشخصيات توازنها الظاهري.
في "مورينا"، يُخفي تشابك العلاقات وتداخلها أشياء كثيرة، بل أنّهما لا يكشفان شيئاً، تقريباً. لا حدود حاسمة، ولا تنبؤات بما ستُقدم عليه الشخصيات في النهاية. يُشبه هذا الأمواج المتقلّبة للمحيط، بمدّه وجزره، ويُماثل تناقضات الشخصيات وتغيّراتها وتقلّباتها المزاجية. المحيط واتّساعه بمثابة النقيض للسجن/المنزل، ولكلّ مُغلَق ومُقيّد في الشخصيات وحولها، وفي البلدة كلّها أيضاً.
نيلا مستسلمة كلّياً، وقانعة بقدرها مع آنتي، رغم اليقظة المفاجئة التي انتابتها في وجود خافيير. غوليغا، الشخصية الأهمّ، متأرجحةٌ بصورة جلية، فهي لا تعرف إنْ كانت منجذبة إلى خافيير، كحبيبٍ أو كأب مُحتمل. لكنّ الواضح لها أنّه يرمز إلى الهروب، وإلى حياة أكبر من تلك التي تعيشها في بلدتها، وإلى مستقبل حرّ ومفتوح الأفق. في المقابل، تظهر غيرة آنتي بشدة، لكن ليس من خافيير، بل من إمكانات ابنته، وطريقة تفكيرها وطموحاتها. خافيير لا يعبأ بهذا كلّه، ولا يرغب في مزيدٍ من المشاكل. يريد إتمام صفقاته التي جاء من أجلها، وتحقيق الربح، ولو على حساب الشخصيات حوله ومصائرها.