"مهرجان أمستردام الـ36": الإبادة الفلسطينية حاضرة ومُثيرة لسجالاتٍ

17 نوفمبر 2023
هذه إبادة لا مجرّد حربٍ: الوحش الإسرائيلي ينقضّ على غزّة (سيد الخطيب/فرانس برس)
+ الخط -

 

إسرائيل تُبيد شعباً، وهذا جُرمٌ بكلّ الأوصاف المكتوبة بكلّ اللغات. هذا ليس قولاً "يدّعي" تأكيد المؤكّد. فمنذ 75 عاماً، هناك إبادة إسرائيلية لفلسطين، شعباً وأرضاً وتاريخاً وتراثاً وعمارةً وأزياء وعيشاً وموروثاً شعبياً وثقافة. الإبادة تلك واضحة المعالم، وإنْ تكن أدوات التنفيذ وأساليبه متنوّعة، فبعض التنوّع منبثقٌ من ضرورة إيهام حلفاء بأنّ القاتل ضحية، والمقتول مُعتدٍ.

اتّخاذ موقفٍ، يُفترض به أنْ يكون أخلاقياً وبشرياً وحياتياً قبل أي شيءٍ آخر، ضروريّ، لكنْ من دون فرضٍ على كلّ آخر ضرورة اتّخاذ أي موقف، أو اتّخاذ الموقف نفسه. عدم اتّخاذ موقف، وهذا يحدث غالباً، موقفٌ بحدّ ذاته، وإنْ غير ملائمٍ لمن يرى أنّ اتّخاذ موقفٍ إزاء مسألة ضرورة أخلاقية وثقافية وإنسانية. اتّخاذ موقفٍ حقٌّ أو انفعالٌ أو رغبة. عدم اتّخاذه حقٌّ أيضاً، وانفعالٌ ورغبة. اتّخاذ موقف يُخالف موقفاً آخر إزاء مسألة واحدة، يجب ألا يؤدّي إلى حملات تحريض وتخوين، بل يُفترض بهذا أنْ يزيد من أهمية النقاش، خاصة في الفن والثقافة، اللذين يُعتبران حيّزاً أساسياً لنقاش هادئ وعميق ومنفتح، وأحياناً يكون النقاش متوتّراً، وهذا طبيعي وعادي.

هذا كافٍ لتحديد مسائل، يُفترض بها ألا تحتمل نقاشاً. لكنّ الحاصل منذ افتتاح الدورة الـ36 (8 ـ 19 نوفمبر/تشرين الثاني 2023) لـ"مهرجان أمستردام الدولي للأفلام الوثائقية (إدفا)"، يستدعي إعادة تحديد مسائل كهذه، قبل طرح سؤال أساسي: كيف نواجِه غرباً، الرسميّ فيه مُتعنّتٌ في دفاعه عن إسرائيل (رغم ازدياد عدد الأصوات الرافضة لهذين التعنّت والدفاع في الإدارات الرسمية نفسها أحياناً)، وبعض شعوبه يرفض إبادة، كالتي ينفّذها وحشٌ إسرائيليّ، يرتبط عيشه وبقاؤه حيّاً بدماء فلسطينية؟

في حفلة الافتتاح، يرفع أفرادٌ لافتة تقول التالي: "من النهر إلى البحر، فلسطين ستكون حرّة". هذا ليس دفاعاً عن فلسطينيين وفلسطينيات يُبادون كلّ لحظةٍ، والرسميّ في الغرب إمّا داعم وإمّا متفرّج، وبعض الناس هناك يقارعون ظلماً وظالمين يتحكّمون ببلدانهم. هذه جملة شعاراتية خطابية، الأجدر بمن يرفعها/ترفعها التنبّه إلى أنّها غير ملائمةٍ لكيفية مواجهة الإبادة الإسرائيلية الجديدة لفلسطينيي قطاع غزّة وفلسطينياته، أساساً. وغير نافعةٍ في دفع، أو محاولة دفع شعوب غربية إلى مزيدٍ من الدعم العملي للفلسطينيين والفلسطينيات، لما تحتويه الجملة من تفكيرٍ يرفضه الغرب، الرسمي والشعبي معاً.

أنْ يُرفع علم فلسطين، مع لافتات تُدين الإبادة، وتطلب وقفاً فورياً للحرب ضد قطاع غزّة، وتجهد في حثّ الغرب على إنقاذ أرواحٍ يخنقها الوحش الإسرائيلي، المتفلّت من كلّ عقاب، هذا كلّه أهمّ وأصدق وأكثر حقيقية، وإنْ يكتفي بكونه موقفاً أخلاقياً ضرورياً، خاصة في غربٍ يُصرّ على دفاعه عن حقوق الإنسان وحرية التعبير، لكنّه يتخلّى عن الحقوق والحرية عند المسألة الفلسطينية. رفع العلم، مع التالي عليه، ضرورة. لكنّ الأهمّ، اشتغالٌ يوميّ يخرج من الشعارات والتظاهرات، رغم أهميتها، إلى عمل ميدانيّ يتواصل مع الناس بشتّى الوسائل، والوسائل كثيرة.

انسحاب المخرجة الفلسطينية بسمة الشريف (المُقيمة في برلين) من لجنة تحكيم برنامج "تصوّرات"، في المهرجان نفسه، احتجاجاً على موقف إدارة "إدفا" من اللافتة المرفوعة في افتتاح الدورة الـ36، موقفٌ أخلاقي أيضاً (لكنّه يحتاج إلى نقاشٍ أهدأ، بحثاً في مدى فائدته العملية)، يؤثّر، لاحقاً، على سكاي هوبِنْكا، عضو لجنة تحكيم مسابقة الأفلام الوثائقية القصيرة، الذي يُبرمج عروضاً لـ4 أفلام قصيرة لها في قسم "السينمات المقابلة"، فيُعلن انسحابه من لجنته، بعد انسحاب الشريف، المترافق وسحبها الأفلام الـ4 تلك أيضاً.

يريد هوبِنْكا الانسحاب من لجنة التحكيم، رغم إدراكه أنّ الانسحاب حاصلٌ بعد انتهاء اللجنة من أعمالها، واختيار "أفضل فيلم" لمنحه الجائزة المالية الوحيدة (5 آلاف يورو)، واختيار فيلمٍ آخر لمنحه "تنويهاً خاصاً". الناشطة السينمائية الأسترالية بريدجيت أوشاي، وأنا، المُشاركان في اللجنة نفسها مع هوبِنْكا، نتّخذ قرار البقاء، ومنح الجائزة، وإعلان موقف داعم لفلسطين وشعبها. فالمسألة واضحةٌ: هناك إبادة حاصلة في قطاع غزّة، وهناك أفرادٌ يحتجّون، بالصوت واللافتات، على تلك الجريمة الإسرائيلية الجديدة، وعلى موقف إدارة "إدفا"، المتمثّل ببيانين اثنين (10 و12 نوفمبر/تشرين الثاني 2023، الموقع الإلكتروني للمهرجان)، لن يرضى بهما محتجون ومحتجات، لعدم اتّخاذهما موقفاً واضحاً (بالنسبة إلى المحتّجين والمحتّجات)، وصريحاً ومباشراً، من تلك الجريمة الإسرائيلية، رغم تأكيدهما، مراراً، على اولوية وقف إطلاق النار، وتقديم المساعدات الإنسانية الضرورية. يُشير البيانان إلى أنّ مخرجين/مخرجات فلسطينيين وإسرائيليين ("ومن كلّ العالم"، بحسب البيان الأول)، عبر أفلامٍ لهم/لهنّ معروضة في دورات سابقة للمهرجان، "حذّرونا فعلياً (أكثر من مرة)، وأخبرونا أنّ العنف يؤدّي إلى تصاعد العنف، مع تصاعد القومية، وتزايد التطرّف، وسيادة اليأس، والتجريد المستمرّ من الإنسانية".

 

 

هذه الأفلام (البيان الثاني) تقول "إنّ العنف يولّد العنف، وحلقات الدمار هذه لا يُمكن كسرها من دون الاعتراف بأنّنا جميعاً متساوون، وأنّ كلّ الأرواح مُقدّسة، وأنّ القدرة على الانخراط في حوار جاد الطريق الوحيدة التي نعرفها إلى السلام المستدام، مهما تكن صعوبة ذلك". يُضيف البيان أنّ إدارة "إدفا" تفهم "أنّ الشعار الذي يقع في قلب النقاش الجاري تستخدمه أطراف مختلفة بطرق مختلفة، ويفهمه أشخاص مختلفون بأعرافٍ مختلفة. نحن لا نتجاهل أو نقوّض أو نُجرّم أيا من هذه المواقف، ونحن نحترم ونعترف تماماً بالألم الذي يحدث، والإلحاح الشديد على ضرورة هذه النقاشات، بينما لا تزال الحرب مستمرة، وما زال المدنيون الأبرياء يموتون". والمهرجان مساحةٌ "للفنانين المتميّزين ليكونوا نقديّين وأحراراً، ومنصّةٌ مفتوحة، لا رقابة. هدفنا التأكّد من أنّ الجميع يشعرون بالترحيب والأمان، للتعبير عن أنفسهم، والاستماع بشكل مفتوح للآخرين، حتّى عندما يكونون على خلاف. أملنا أنْ يشعر الجميع بأنّ لهم حقَّ استخدام هذه المنصّة بجدية ومسؤولية، وبمحبة وإخلاص".

من جهتها، تكتب الشريف أنّه "بينما تواصل إسرائيل عمليات التطهير العرقي والإبادة الجماعية، التي يموّلها الغرب، ضد الفلسطينيين، يبدو أن "مهرجان أمستردام الدولي للأفلام الوثائقية" يشعر برغبة قوية في إصدار بيان مُسيء، يساوي بين المطالبة بحقوق الفلسطينيين ومعاداة السامية". تُضيف أنّها لم تعد تملك "لا الكلمات ولا الطاقة لشرح الضرر الذي يُسبّبه بيان كهذا، فنحن نشرح هذا الواقع منذ 75 عاماً. وها نحن بعد 75 عاماً، وسط إبادة جماعية. يتّضح أنّ إدارة مهرجان وثائقي، يُقام في بلدٍ يؤمن بحرية التعبير، تعتقد أنّ حياة شعبٍ أهمّ من حياة شعب آخر".

إلى الانسحاب من لجان تحكيم، يقترح البعض توزيع المبالغ المالية للجوائز على مخرجي/مخرجات الأفلام المشاركة في المسابقات كلّها. هذا غير منطقي وغير عملي وغير مفيد. الفائز/الفائزة لا علاقة لهما، بالضرورة، بالمسألة كلّها، وهذا حقّ له/لها، تماماً كحقّهما في الحصول على الجائزة وقيمتها المالية. مقتنعون قلائل بعدم فائدة توزيع المال يتمنّون أنْ ينتبه الفائزون/الفائزات إلى المسألة، لعلّهم يتبرّعون بالمال لأهالي غزّة. أعضاء لجان تحكيم يتساءلون، قبل ساعاتٍ على إقامة حفلة توزيع الجوائز (16 نوفمبر/تشرين الثاني 2023): "أننسحب من الحفلة، أم نقف على المسرح ونُعلن النتائج ونسلّم الجوائز، ثم نقول رأينا علناً، بوضوح ومباشرة؟".

هذا كلّه غير طاغٍ كلّياً على دورةٍ جديدة لمهرجانٍ دولي، يُشكِّل منبراً أساسياً لأفلامٍ وثائقية، يشاهدها كثيرون وكثيرات في 11 يوماً. الجريمة الإسرائيلية الجديدة حاضرةٌ، وهذا طبيعيّ، لأنّها (الجريمة) تمسّ أناساً يعملون في فنّ، يُعتَبر أكثر وسائل التعبير البصري تمكّناً من قول حقٍّ، وكشف حاصلٍ، وتبيان حقائق، وسرد وقائع.

المساهمون