مها حاج (1/ 2): "طالما هناك احتلال فسيبقى هناك نكبة"

14 ابريل 2023
مها حاج: السخرية تُنقذ أغلبية الفلسطينيين (باسكال لو ساغرتان/Getty)
+ الخط -

 

ترتكز رهافة "حمّى البحر المتوسط"، الفيلم الطويل الثاني للمخرجة الفلسطينية مها حاج، على حوار جذّاب ومُحكم، يتمثّل بكوميديا سوداء في وضع وليد (أدّاه ببراعة عامر حليحل)، رجلٌ فلسطينيّ أربعيني، ربّ بيتٍ ذو نزعة اكتئابية، يعيش في حيفا، ويسعى لأنْ يصبح كاتباً. لكنّ وصول جلال (أشرف فرح)، جاره الجديد، الأبيقوري بالسّليقة، يقلب وجوده رأساً على عقب، فيخوضان معاً رحلة روحية، غير مأمونة العواقب، تتخلّلها لحظات غموض وتشويق.

وفق تبئير مرآوي خلّاق، يقيمه الفيلم، الفائز بجائزة أفضل سيناريو في "نظرة ما"، في الدورة الـ75 (17 ـ 28 مايو/ أيار 2022) لمهرجان "كانّ" السينمائي، يعاني وليد فتوراً إبداعياً، وحيرة في اختيار موضوع روايته الأولى، بالطريقة نفسها التي يتردّد فيها سرد "حمّى البحر المتوسّط" بين مسارات نوعية مختلفة. فما إنْ يأخذ شكل الدراما السيكولوجية، حتى يتحوّل إلى فيلم صداقة، قبل أنْ ينقلب إلى فيلم غموضٍ وبحثٍ في عالم الجريمة، وينتهي كتراجيديا بالغة القتامة.

ديناميكيةٌ شكلية، تعزّزها على مستوى الحكي جدلية علاقة التقارب/ التنافر بين شخصيتين تتناقض إحداهما مع الأخرى في كلّ شيء: وليد انطوائي وكتوم، ذو نظرة سوداوية، بينما حياته كتاب مفتوحٌ أمام المشاهد؛ وجلال مُقبل على الحياة بتفاؤل وعفوية طفولية، رغم أنّ جوانب أساسية من وجوده تلفّها الضبابية.

تتوارى لمسة مها حاج في الإخراج إلى الخلف، وفق كياسة وشفافية توافقان المسافة اللازم أخذها، مع طرح سياسي يتشكّل شيئاً فشيئاً بمنتهى الإحكام والدقّة، مُقتفياً الدلالة بشكل تقعيري من داخل وضعيات الحياة اليومية: تقشير الخضر بطريقة آلية أمام شاشة تلفاز، تعرض مشاهد الاعتداء الإسرائيلي؛ عيادة طبيبة تسأل عن الانتماءات العرقية والدينية لمرضاها؛ لقاء ليلي مع جار أورث كراهية الهوية الفلسطينية والعربية لكلبيه؛ حوار مع الابن حول درس جغرافيا مُضلّل تلقّاه في المدرسة؛ إلخ. هذا يقول أشياء أساسية عن شرط الفلسطيني تحت الاحتلال، واعتمال مشاعر الاضطراب والتغرّب فيه، رغم أقنعة الفرح/الأسى التي يضعها على وجهه لمواجهة تصاريف الدهر.

حلّت مها حاج ضيفةً على الدورة الـ19 (11 ـ 19 نوفمبر/ تشرين الثاني 2022) لـ"المهرجان الدولي للفيلم بمرّاكش"، لتقدّم فيلمها في أحد العروض الاحتفالية "غالا"، فالتقتها "العربي الجديد" في حديقة "فندق المامونية"، حيث تجري المقابلات الصحافية مع ضيوف المهرجان.

 

(*) يرتكز الفيلم، بشكل أساسي، على الحوار والكتابة، خصوصاً جانب النص السياسي الخبيء Subtext، المثير للإعجاب، في السيناريو. ما مقدار الأهمية التي تولينها للكتابة؟ وهل تأخذ منك وقتاً أكثر ممّا يلزم عادةً؟

أعتقد أنّ السيناريو أهمّ عنصر في الفيلم. إذا توافرتَ على سيناريو جيّد، يُمكن أنْ يكون الفيلم جيّداً. إذا كان لديك سيناريو سيّئ، ليس هناك أي احتمال لأنْ يكون الفيلم جيداً، أبداً، حتّى لو استعنت بمصوّر بارعٍ، وأفضل الممثّلين، وميزانية بملايين الدولارات. يتكوّن السيناريو، عملياً، من قصّة وحوار. الحوار ينبغي أنْ يكون تلقائياً، وطبيعياً، وغير مُتكلّف. يلزم ألا تكتب جملاً لا تسمح لنفسك بقولها، أو لا تقولها عادةً في مواقف الحياة اليومية. لا نسمح للشخصيات بالتحدّث بطريقة متصنّعة ومتكلّفة، وبثقل معيّن، فقط بحجّة أنّنا خلقناها، أو أنّها من وحي خيالنا. العفوية مهمّة للغاية في السيناريو.

هذا ثاني فيلم طويل أكتبه. يصعب عليّ تحديد كم تطلّبت كتابته من وقت، لأنّي أبدأ الكتابة في رأسي. أفكّر في القصّة أكثر من سنة. أفكّر مليّاً في الشخصيات. أحياناً، أدوّن ملاحظات عن جُملٍ تعبّر عن مشهد أو موقف معيّن. لكنّ كلّ شيء تقريباً يظلّ في ذهني. ما إن أحسّ أنّ رأسي امتلأ، ولم يعد فيه مكان لأفكار جديدة، أبدأ في تفريغ السيناريو على الورق. هذه المرحلة تستغرق شهراً أو شهرين، على الأكثر. هذه، في الحقيقة، عملية أقرب إلى التفريغ منها إلى الكتابة. بعد ذلك، آخذ وقتاً للتفكير، مجدّداً. بعد النسخة الأولى، كما تعلم، تجلد نفسك، وتكره ما كتبته تارة، وتحبّه تارة أخرى، وتشرع في تغيير ما كتبت. هذا كلّه تطلّب منّي سنة أخرى، تقريباً.

 

(*) تميّز السيناريو برهافةٍ، تلافيتِ بفضلها تناول الاكتئاب بكيفية اعتيادية. ما عدا أنّ وليد يذهب إلى الطبيب النفسيّ، لا شيء تقريباً في سلوكه يدلّ على أنّه مكتئب، بل يحلم بأنْ يصبح كاتباً، وفق طموحٍ يعارض شعور الاكتئاب. هل كنت حريصة على هذا الجانب حمّال الأوجه لثيمة الاكتئاب؟

كان سهلاً أنْ أقع، ككاتبة تخلق شخصية رجل مكتئب، في فخّ الاعتيادية، فتخرج الكآبة أثقل من اللازم، ومنفّرة للمُشاهد. شخصية كوليد، مع ما تجرّه وراءها، والمرض الذي تُعانيه، تستدعي ثقلاً كبيراً. لكنّي حاولت الاحتفاظ بداخلها، حتى مع كلّ الكآبة التي تلفّها، ووقع ما تعيشه، بشيءٍ من الحياة والجاذبية. أنْ يكون هناك دائماً شيء طريف يقع، كوميديا سوداء أو سخرية، من طرفها. بل إنّ السخرية أنقذت وليد، وأنقذتني أنا، وتنقذ أغلب الفلسطينيين.

 

 

(*) الجميل أنّ شخصية جلال، بتعارضها المطلق مع وليد، بحكم إقبالها على الحياة، تجعلنا نحسّ بكآبة وليد. كأنّها تكشفها لنا بفعل التعارض والتقعير، en creux كما يقول الفرنسيون.

شخصية جلال، قبل كل شيء، أكثر عملية وواقعية من أنْ تكون مكتئبة. هو يعشق الحياة عندما يحبّ، وعندما يشرب العرق، وعندما ينصت إلى الأغاني الشعبية لجورج وسوف، ولديه عشيقة. شخصٌ يعيش على الحافة، بطريقة فيها شيء من الوحشية. لكنّه، في الأخير، يعاني الكآبة على طريقته، كما تبيّن في النهاية. لا أرغب في حرق الأحداث، لكنّ جلال ليس واعياً باكتئابه، بينما وليد يعيه أكثر من اللازم. هذا التوازن الهشّ بين الشخصيتين أعطى الفيلم دينامية خاصة.

 

(*) جانب آخر مهمّ ورائع عن السيناريو، حين يقوم بنوع من التبئير المرآوي على فكرة الكتابة. أي إنّنا نحسّ أنّ الفيلم يعجز عن الحسم في الذهاب في منحى معيّن، بين فيلم صداقة وفيلم تعلّم وفيلم جريمة، بالطريقة نفسها التي يعجز فيها وليد عن الكتابة، ويتردّد في نوع الرواية التي ينبغي أنْ يكتبها. أهذا مقصود؟

لا، لم أنتبه إلى ذلك أبداً، صراحة. لكنْ، هذا أحد عناصر التشويق، أو كيف أنّنا لا نعرف أبداً ما سيأتي. كأنّنا نتماهى مع كذب وليد. رغم أنّه يكذب المرّة تلو الأخرى، نصدّقه، لأنّنا قد نقول إنّها آخر مرّة يكذب فيها، والآن يقول الحقيقة. هناك تدرّج في السرد المتعلّق بشخصية وليد، وفي كلّ مرّة يحكي لك قصة، تندمج معها، وتقول لنفسك: "حسناً. هذا هو الفيلم". كما تفضّلت: "حسناً، الفيلم عن الصداقة. لا، إنّه عن شخصٍ يبحث في عالم الجريمة. لا مهلاً..."، إلى آخر مشهد من الفيلم. هذا يشبه قطار ملاهٍ على سكة أفعوانية، من المشاعر وتبدّل الإيقاع وانعطاف السرد. هذا كلّه جعل الفيلم مشوّقاً.

 

(*) هناك نصّ خبيء في الفيلم، عبر فكرة "الحمّى المتوسّطية" و"كلوستروفوبيا" وليد، يُمكّن من تناول القضية الفلسطينية من خلال تأثيرها الداخلي في الشخصيات، وتصرّفات غير مُتحَكّم بها، أو غير إرادية، تبدر منها كنوع من التنفيس.

هذا مفعول التراكم. حدثت نكبة الاحتلال منذ 1948، والناس غير الفلسطينيين يقولون: "حسناً، حدثت عندكم كارثة في الماضي، وخبا تأثيرها الآن". لا. النكبة مستمرّة في كلّ وقتٍ وآن، وما دام هناك احتلال، هناك نكبة. لا أعرف إنْ كنتَ لاحظت في آخر الفيلم صور حيّ اسمه "وادي الصّليب" في حيفا. حيّ عربي كان من أجمل أحياء المدينة، لكنّه فُرّغ من ساكنيه. هُجِّر أهالي حيّ كامل، وسُمّرت نوافذ البيوت. هذه منازل كانت فيها حياة، وعائلات تقيم حفلات زفاف. كان فيها أطفال يلهون، وحبٌّ، وطعامٌ يُقْتَسم. كان فيها حديثٌ وفرحٌ وصداقات. كانت فيها حيواتٌ عدّة. فجأة، عام 1948، طُرد الجميع من بيوتهم. ويعلم الله أين هم الآن، في أيّ مخيّم لاجئين، وفي أي منفى في العالم. اليوم حُرموا حتّى حلمَ أنْ يعودوا ليروا منازلهم، التي أضحت عرضة للهدم، حتّى يقيموا مكانها عمارات فاخرة تطلّ على البحر. وددتُ أنْ أسدي تكريماً لهذه الأحياء، التي تمثّل كلّ حيّ وحارة هُجّر منها أهلها في فلسطين، من خلال الصورة التي تُبيّن، نوعاً ما، حزن المدينة.

هذا هو النّص الخبيء الذي تحدّثتَ عنه، عبر الصورة أو الصوت أو أغاني ناي البرغوثي، أو من خلال شعور وليد الذي يحمل القضية الفلسطينية على كتفيه، لأنّه لا يستسلم. يصرّ على تعليم ولديه عدم التحدّث بالعبرية في البيت. يقول للطبيبة إنّ "المهم ليست ديانتي، بل أنّي فلسطيني". يُلقّن مُدرّسة التاريخ والجغرافيا أنّ القدس عاصمة فلسطين. حتّى لو كان يعرف أنّه سيموت، فإنّ لديه حلماً أو هدفاً: أن تكون فلسطين في قلبه وتصوّره. هذا يُعبّر عنّي أنا، وعن كثيرٍ من فنّانينا.

المساهمون