لم يتردد اليمين البريطاني في السخرية من منحوتة "قوة الحجاب" للوك بيري التي كُشف عن نموذجها الأولي في بيرمنغهام في بريطانيا. وفوراً بدأت المقارنة بإيران، والقول إن المنحوتة ستثلج قلوب الملالي في الذكرى السنوية لمقتل مهسا أميني. لكن المنحوتة -حسب بيري- "تمثّل النساء المسلمات اللاتي يرتدين الحجاب، وهن شريحة موجودة في مجتمعنا، لكنها لا تحظى بالتمثيل الكافي، رغم أنها جزء مهم".
التمثال الحديدي جاء وسط عاصفة من "الحرب" التي تُشَنّ على المرأة المحجبة، سواء في الهند حيث تتعرض المحجبات للسحل في الشارع، أو في فرنسا التي منعت العباءة في المدارس، أو سويسرا وبلجيكا اللتين منعتا البرقع وتغرّمان من ترتديه، ليأتي التمثال الحديدي كلفتة لإعادة المحجبات إلى الواجهة، بوصفهن مواطنات، لا مسلمات فقط.
لكن الإشكالية تتجاوز الموقف من الحجاب من وجهة نظر نسويّة (مع أو ضد)، بل تكمن في تحول الثياب إلى مساحة صراع سياسي علنيّة. والتراجيدي أنها تستهدف النساء، ومصادرة حريتهن باللباس من أجل "قيم فرنسا" أو "قيم بريطانيا"، حسب منتقدي التمثال. ما يحصل أن الصراع على جسد المرأة عاد إلى الواجهة، وليس فقط المحجبة بالمناسبة، فالرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون أثار عاصفة من الانتقادات عام 2021 حين علّق على لباس الفتيات القصير في المدرسة، قائلاً إنه يجب أن يكون اللباس "لائقاً".
المشكلة، إذن، ليست بالزي نفسه، بل بتداول قضية الحجاب بوصفها علامة سياسيّة، والتركيز على إسلاميته لأغراض سياسية، لا تناقش حرية المرأة باللباس والاعتقاد، بل تحوله إلى أيديولوجيا تهدد القيم الوطنية الأوروبية: تلك العبارة الغامضة. لكن ما نعرفه، أن كل هؤلاء المحجبات، مواطنات أوروبيات، يتمتعن بحق ارتداء ما يشأن، ووصمهنّ بشأن أيديولوجي لا يراعي خبراتهن، يمثّل مشكلة سياسيّة يجري التغاضي عنها، أو يوظفها اليسار لمحاربة اليمين.
كلمة "إسلاموي" هي الأكثر تداولاً في وصف الخوف من المسلمين. لكن، تمثال لامرأة محجبة أيضاً يثير التساؤلات، إن كان تاريخ الفن يجنسن جسد المرأة و"يفتضحه" لتحديقة الرجل. أليس تمثال امرأة محجبة يمثّل تركيزاً، ولو بصورة ما، لهذا المفهوم، أي إن الجسد الأنثوي، مهما كان يرتدي، هو محطّ التحديقة الذكوريّة. لكن ليس هذا محور الحديث، ما يهمّ، أننا أمام استهداف، سواء كان إيجابياً (التمثال) أو سلبياً (قوانين المنع) لجسد المرأة، وتزكية الجدل حول الأيديولوجيا.
الواضح أن الدول الديمقراطيّة (الهند، فرنسا، بريطانيا، سويسرا...) ترى أن جسد المرأة المسلمة المغطى إشكاليّ، لكن هذه الإشكالية نفسها محط سخرية. المرشح الفرنسي عن اليسار، جان-لوك ميلانشون، نعت سابقاً ماكرون بـ"الخميني". وبعد قرار منع "العباءة"، بدأت الأصوات تنتقد: ما المقصود بالعباءة بدقة؟ وبدأت الإشارة إلى ثوب بريجيت ماكرون في أثناء استقبال الملك تشارلز بوصفه "عباءة"، ليظهر السؤال: هل علمانيّة الدولة تتمثل بالخبرة في تصميم الأزياء وفصل الديني عن غير الديني؟
ذات الانتقاد يوجه إلى الاحتفاء بالمرأة المحجبة. نعم، المرأة حرة باختيار الحجاب، لكن هذا لا يعني أن هناك كثيرات قد فرض عليهن الأمر فرضاً، صورة المرأة المحجبة شديدة الإشكاليّة، فضلاً عن الجدل الفقهي حول انتماء الحجاب إلى الفرائض الإسلامية. الاحتفاء هنا ليس سوى ترسيخ للأيديولوجيا، التي أيضاً تهضم حقوق الكثيرات، فما موقف من ترى تمثالاً حديدياً لامرأة محجبة، بينما هي نفسها، تخضع للحجاب ولا تستطيع نزعه؟
كل ما سبق، محاولة لتجاوز الجدلية نحو نتيجة تبدو تراجيديّة، وتطبيق لعبارة ظننا أنها تلاشت من العالم الغربي، مفادها أن استهداف السلطة لجسد النساء دليل على مدى انفتاحها وعدالتها. وللأسف، هذا ما يحصل. فضلاً عن أن المشكلات الحقّة والفجوات التي تختبرها النساء، ما زالت قائمة وفي ذات الدول؛ فجوة الأجور، وفجوة اللذة، وفجوة الحق بالإنجاب، وقتل النساء، كلها مشاكل قائمة على النوع الاجتماعي، لكن يبدو أن لباس المرأة هو محطّ الجدل.