استمع إلى الملخص
- ظاهرة الاعتماد على التنبؤات والعرافين، مثل ليلى عبد اللطيف وميشال حايك، تكتسب زخماً، حيث يتم تداولها على وسائل التواصل الاجتماعي، مما يثير تساؤلات حول تأثيرها على الوعي العام.
- انتشار التنبؤات يعكس رغبة في تفسيرات سهلة للأحداث المعقدة، مما يعطل التفكير النقدي ويعزز الاعتماد على الغيبيات بدلاً من التحليل السياسي الجاد.
مضى على حرب الإبادة التي يشنها الاحتلال الإسرائيلي على قطاع غزة عام من الدمار والقتل الممتد من القطاع نحو لبنان وسورية واليمن والعراق وإيران. إسرائيل، وكما قال نتنياهو نفسه، لن تتردد عن قصف أي هدف في الشرق الأوسط لـ"الدفاع عن نفسها".
في ظل هذه الحرب، والتغيرات الإقليمية التي يقول بعضهم إنها ستعيد تشكيل المنطقة، ظهر شكل جديد من التنافس على الشاشات، أو لنقل منافسة في محاولة فهم الواقع ورصد المتغيرات السياسية، والأهم محاولة استقراء المستقبل، المهنة التي تسمى عادة بالتحليل السياسي.
لكن يبدو أن زمن الإبادة يهدّد القدرة على الإدراك، وليس التحليل السياسي وحسب؛ إذ نشاهد نوعاً جديداً من الـ"ترند"، يعتمد على المتنبئين والعرافين والمنجمين، فانتشرت تسجيلات للعرافة ليلى عبد اللطيف، يظهر فيها ما فسّره بعضهم على أنّه تنبّؤها بعملية طوفان الأقصى، لكونها ذكرت في أحد تنبؤاتها ما وصفته بـ"أكبر هجوم على العدو الإسرائيليّ".
حقيقة، لا حاجة للحديث عن الفلك أو العلوم الزائفة لوصف ولتفسير ظاهرة عبد اللطيف أو غيرها، خصوصاً أنها ليست حكراً على عبد اللطيف، لكن رواجها مريب، إذ استعيد أيضاً تسجيل للمتنبئ اللبناني الشهير، ميشال حايك، يعود إلى مطلع عام 2023 قال فيه: "تسلل فلسطيني محترف فوق العادة، يولع العمق الإسرائيليّ"، مشيراً إلى أنه سيكون هناك "نسخة جديدة من جدار برلين على أرض فلسطين".
هذه المهارة/القدرة التي يتداخل فيها التحليل السياسي مع شتى أنواع العلوم المشكوك فيها حاضرة طوال الوقت. فالأمين العام للمجلس الإسلامي العربي، محمد علي الحسيني، تحول إلى "ترند" لـ"تنبؤه" بمقتل الأمين العام لحزب الله، حسن نصر الله، قبل 48 ساعة، متهماً إيران "ببيع نصر الله" ضمن صيغة خطابيّة لا تختلف عن تلك الخاصة بالمنجمين.
تحولت هذه التوقعات إلى صور فكاهية (Memes) عبر وسائل التواصل الاجتماعي، مفادها أن رجل الدين (الحسيني) أصبح ينافس المتوقعين التقليديين، أو يمكن استشارته ليس فقط في شؤون السياسة، بل الحياة اليوميّة. وهنا نحن أمام خطاب مضاد للخرافة. لكن في ذات الوقت، المنصة التي ينشر عبرها التوقع هي ذاتها التي ينشر عبرها نقيضه، وينشر عبرها أيضاً صور الأطفال الشهداء في قطاع غزة.
لا نعلم كيف اختلط التحليل السياسي بالتنجيم. لكن المثير أيضاً شهية وسائل التواصل الاجتماعي نحو هذا النوع من المحتوى، ذاك الذي ينفي الفاعلية عن المقاومة، ويترك القرار بيد الأفلاك، وكأنه شأن حتمي. من جهة أخرى، يمكن فهم أن سطوة حدث السابع من أكتوبر 2023 هدّدت قدرة كثيرين على استيعاب ما يحصل في قطاع غزة: فجأة، هبط رجال القسام من السماء، وبعدها شنّ جيش الاحتلال حرب إبادة، أي نحن أمام حدثين استثنائيين كلاهما لا ينتمي إلى ما يمكن تسميته الشكل التقليدي للنضال الفلسطيني ضد الاحتلال الإسرائيلي.
بلاغة هؤلاء، من يخلطون قراءة الأخبار مع قدرة بلاغية وسيميولوجية، تتركنا أمام حالة مثيرة للاهتمام، وهي الرغبة لدى بعضهم بأن يكون كل شيء مكتوباً، ونحن من فوتنا قراءته، أو تجاهلنا علامته، لكننا في النهاية أمام استعمار استيطاني، ولا حاجة إلى التنبؤ كي نستوعبه، إضافة إلى أن هذا النوع من الغيبيات يمتلك سحراً وقدرة تخديريّة. هو يعطل التفكير والتحليل ويجعلنا كلنا محكومين بحركة كواكب كلّ يفسّرها على هواه.
نحن أمام قدرة بلاغية اختزالية، قادرة على طمأنة بعضهم، في الوقت نفسه تعطيل فاعليتهم. وهنا بالضبط ما يكشفه انتشار صرعات كهذه، يظهر فيها المتنبئ/المنجم/ الجنرال المتقاعد/ رجل الدين ضمن المساحة نفسها، إضافة إلى أنها تكسب صاحبها هالة من التعالي والترفع على السياسي واليوميّ، يشعر إثرها بتفوق ما، ليختزل الحدث بعبارة بلاغية أشبه بطلاسم علينا نحن فك تشفيرها. وبطبيعة الحال، يمكن لهذه العبارات أن تنجح مع أي حدث.