- الملصقات في مهرجان كان تتميز بتصويرها الفني الراقي والمتنوع، خاصةً في تصوير المرأة كرمز سينمائي، وتعبر عن موضوعات مثل الرومانسية والسينما، مع استخدام ألوان أساسية لتعزيز هويته البصرية.
- تعكس الملصقات التطورات الفنية والتقنية في التصميم الجرافيكي، محافظةً على الروح الأصلية للسينما وتعزيز تجربة المهرجان كمنصة فنية عالمية تحتفي بالإبداع والتنوع السينمائي.
في الدورة الـ75 (17 ـ 28 مايو/أيار 2022) من مهرجان كانّ السينمائي، احتفاءً (غير مُعلن رسمياً) بيوبيله الماسي، فوجئ النقّاد والصحافيون والإعلاميون والعاملون في التسويق، عند تسلّم بطاقاتهم الصحافية، بتوزيع أنابيب بورق مُقوّى، في كلٍّ منها ملصق لدورة ماضية، هديةً تذكارية. أشارت الأرقام المكتوبة على غطاء كلّ أنبوب إلى عام الملصق.
الهوس بملصقات مهرجان كانّ
سابقاً، كانت إحدى العادات الحميدة للمهرجان، قبل توقّفها مُؤخّراً، منح ملصق الدورة المُنعقدة، مجّاناً، لمن يطلبه من صحافيين ونقّاد مُعتَمَدين. بخلاف غيره من المهرجانات، غير المعنية كثيراً بملصقاتها، هذا الأمر في مهرجان كانّ والمدينة نفسها، ومحلاتها المهووسة ببيع الملصقات وتعليقها، ليس مصادفة. الأغراض مُتعدّدة: تأكيدُ أهمية الملصق بحدّ ذاته، هويةً بصريةً مميّزة، رمزياً وفنياً وتاريخياً، ولأنّه النافذة التي يُطلّ منها القائمون على مؤسّسة المهرجان (هذا يعني لهم الكثير)، سنوياً، على الجمهور، برسالة أو دلالة، وإن كانت سينمائية ـ جمالية بحتة. يبدو جليّاً أنّ الأمر ليس معقوداً على تكليف فنانٍ أو شركةٍ بتصميم الملصق فقط، فهناك قدرٌ من الرؤية الفنية والجمالية والسينمائية يصنع فلسفة التصميم ورسالته. هذا يتأكّد في قراءة سريعة لعدد من أبرز الملصقات، التي شكّلت تاريخ ملصقات مهرجان كانّ في 77 دورة.
رغم الدعوات التي تزعم بحقّ، أحياناً، أنّ المخرجات غير ممثَّلاتٍ كثيراً في المهرجان، إلا أنّ الأمر غير ذلك كلّياً في الملصقات، إذْ تكتسحها المرأة بمختلف إطلالاتها. فمنذ تسعينيات القرن الـ20، يُولي المهرجان اهتماماً خاصاً بوجود ممثلات أيقونات في تاريخ السينما، الأولى بينهنّ الألمانية مارلين ديتريش، في ملصق الدورة الـ45 (7 ـ 18 مايو/أيار 1992).
تَلَتْها الإيطالية مونيكا فيتي (2009)، والفرنسية جولييت بينوش (2010)، والأميركيتان فاي دوناواي (2011) ومارلين مونرو (2012)، والسويدية إنغريد بيرغمان (2015)، والإيطالية كلاوديا كاردينالي (2017)، ثم الفرنسية كاترين دونوف (2023). هذا في مقابل ظهور، لا يكاد يُذكر، للممثلين الذكور، المتفرّدين بإطلالاتهم على الملصق، والاستثناء الوحيد للإيطالي مارتشيلّو ماستروياني، الذي تَصدَّرَ وجهه ملصق الدورة الـ67 (14 ـ 25 مايو/أيار 2014). وهذا مقصودٌ، إذْ إنّه تحيةً خاصة من المهرجان له، بمناسبة الذكرى الـ90 لولادته (1924 ـ 1996).
لمفردات الصناعة السينمائية البارزة وموتيفاتها حضورٌ متفاوت في ملصقات المهرجان، أكثرها انتشاراً تلك الخاصة بشريط الـ"سيلولويد" والبكرات وملصق فيلمٍ، كما بالكاميرا السينمائية والـ"كلاكيت". أحياناً، هناك صُور فوتوغرافية، أو لقطات من أفلام.
تجلّى هذا في أوضح صُوره في ملصق الدورة الـ72 (14 ـ 25 مايو/أيار 2019)، التي تزامن انعقادها مع وفاة المخرجة الفرنسية أنياس فاردا (1928 ـ 2019): صورةٌ ذهبية لها، عند بلوغها 25 عاماً، وهي تُصوّر أول أفلامها، "النقطة القصيرة" (1955)، تظهر فيها مُعتليةً ظهر مساعد لها، للإمساك بلقطة خالدة لا ندري كُنهها. التعمّد في هذا الملصق تأكَّدَ مع تغيير إدارة المهرجان اسم القاعة ـ الخيمة الكبيرة، المُسمّاة "قاعة الـ60"، لتُصبح "قاعة أنياس فاردا"، ما يُؤكّد أنّ هناك مؤسّسة ذات رؤية تُدير وتخطّط بتكامل وتناغم.
رغم تنوّع الألوان وثرائها، الأساسية منها والفرعية، المستخدمة في الملصقات، بتدرّجاتها اللونية المختلفة، وتوظيف الألوان الحارّة والدافئة خير توظيف، يُلاحَظ غلبة الأزرق والأحمر والأصفر تحديداً في أغلبها. للأمر تفسيراته، إذْ يُستخدم الأزرق عادة في تلوين السماء والبحر والأمواج والطيور، وطبعاً الخليج ومرفأ اليخوت. هذا يتماشى مع البيئة المحيطة، وأجواء الصيف، وأماكن الاصطياف والسباحة، فالمهرجان يُقام على شاطئ الـ"كروازيت" وامتداداته.
أما الأحمر، اللون الملكي الساخن، فيرمز إلى حرارة المهرجان وفعالياته وأجوائه "الساخنة"، فضلاً عن كونه اللون الملكي للسجادة الحمراء الشهيرة، التي تُبسَطُ على الدرجات الـ24 لسُلّم "قصر المهرجانات"، حيث محطّ أنظار الإعلام العالمي والجمهور كلّ أيام دوراته السنوية.
والأصفر لون الذهب، أي أناقة المعدن النفيس وفخامته منذ أنْ اكتشفه البشر، كما أنّه اللون الأشهر والأرفع لأيّ جائزة. إنّه كذلك لون "السعفة الذهبية"، أرفع جوائز مهرجان كانّ وأهمها.
لا يوجد اللون الذهبي لـ"السعفة الذهبية" ـ الشعار في أركان الملصق أو منتصفه فقط، بل يهمين أيضاً، بدرجاته المختلفة، على تصميمه. من ناحية أخرى، يتوافق اللونان الأحمر والذهبي مع الإضاءة المُبهجة، المُسلّطة ليلاً على جدران قلعة مدينة كانّ القديمة وحصنها، القريبة جداً من القصر.
رغم تنوّع الألوان وثرائها، اللذين يكتسحان معظم ملصقات المهرجان، تُعيدنا التصاميم، بين حين وآخر، إلى السحر القديم للسينما، مع الأسود والأبيض اللامعين والمصقولين، إنْ في لقطات أفلامٍ، أو في صُوَر نجوم ومخرجين. مثلاً: صورة المخرج الأميركي سبايك لي على ملصق الدورة الـ74 (6 ـ 17 يوليو/تموز 2021)، أحد المخرجين النادرين جداً الذين ظهروا في ملصقات المهرجان، وهؤلاء يُعدّون على أصابع اليد الواحدة. حتى عند ظهورهم، لم يكونوا وحدهم، فالملصق حينها صورة جماعية، نُفّذت مرةً واحدة فقط ولم تتكرّر، بالأسود والأبيض أيضاً، وذلك بمناسبة الذكرى الـ60 لتأسيس المهرجان، في دورة عام 2007 (16 ـ 27 مايو/أيار): بيدرو ألمودوفار وجين كامبيون وسليمان سيسيه وونغ كار ـ واي وبروس ويليس وجيرار دوبارديو وصامويل إل. جاكسون وبينيلوب كروز وجولييت بينوش، يقفزون جميعاً في الهواء بابتهاج. هذا الملصق تركيبيّ، استُخدِمت تقنيات الكمبيوتر في تنفيذه، إلى البراعة الفنية في التصوير الفوتوغرافي.
القبلة على ملصق
نظراً إلى الحضور الطاغي لقصص الحب والرومانسية في تاريخ الفنّ السابع، لم يكن مُمكناً ألّا يُعبَّر عنهما في الملصقات. إحدى أروع صُورهما تمثّلت في القُبلة التي تصدّرت مكانة بارزة في الملصقات، بالأسود والأبيض كما بالألوان. هذه من أبهج ما أُنجز في التاريخ الحديث للملصقات: قبلة كاري غرانت وإنغريد بيرغمان، بالأسود والأبيض، في "سيئة السمعة" (1946) لألفريد هيتشكوك؛ والأحدث قبلة جان ـ بول بلموندو وآنّا كارينا، في "بيارو المجنون" (1965) لجان ـ لوك غودار.
من الأمور اللافتة للانتباه، بعيداً عن اللغط والفضائح والإثارة الصفراء التي رافقت صدور ملصقات عدّة، يُلاحظ أثر الزمن على تصميم الملصقات وألوانها وجودة طباعتها، والفكر والخيال والتنفيذ، انطلاقاً من ستينيات القرن الـ20، وعودةً إلى ما قبلها أيضاً، مع إيغال المرء في الدورات الأولى. الملصقات صادمة، إذْ تسودها أعلام دول، وشُعلات تُظهر الأعلام، وغيرها من موتيفات تُحيل إلى الاشتراكية أو الطابع الأميركي. هناك أخرى مُضحكة، لا تُشير إلى أي شيء نهائياً، وتخلو من أي فنّ وجمال. يُضاف إلى هذا فقر الطباعة اليدوية والحجرية وغيرهما، قبل بدء عصر الكمبيوتر والطباعة الديجيتال. ما يدلّ على أنّ الروعة الحالية ليست وليدة اليوم، ولم تأت من فراغ أبداً.
هناك أخيراً مُلصق الدورة الجديدة، أي الـ77 (14 ـ 25 مايو/أيار 2024). هذا يعود إلى الملصقات الملوّنة مُجدّداً، ففيه لقطة ساحرة من "رابسودي في آب" (1991) للياباني أكيرا كوروساوا، المعروض لأول مرة خارج مسابقات الدورة الـ44 (9 ـ 20 مايو/أيار 1991). اختيار هذا الفيلم تحديداً مُتعمّد، إذْ تتقاطع أحداثه مع ما يُحيط بنا من حروب ودمار وقتل: جدّةٌ ناجيةٌ من القنبلة النووية المُلقاة على ناغازاكي (9 أغسطس/آب 1945) تسرد قصّتها على أحفادها وابن شقيقها الأميركي، في دعوة صريحة إلى مناهضة الحرب، والتحلّي بالحبّ والنزاهة والتسامح. كما يُؤكّد هذا الملصق على التوجّه العام لإدارة المهرجان، التي قرّرت منح "سعفة ذهبية فخرية" إلى شركة الرسوم المتحرّكة اليابانية "ستوديو جيبلي"، في سابقة أولى: منح جائزة تكريمية إلى شركة لا إلى فرد.
باستعراض تاريخ الملصقات، يُلاحَظ أنّ كوروساوا لم يظهر مرّة واحدة في ملصق، إنْ يكن بوجهه، أو بلقطة من فيلمٍ له، بينما أنجز رسماً مُلوّناً للإمبراطور سان مارتن، يُظهر المحارب مُمتطياً جواده ومُرتدياً زيّه الياباني التقليدي، والرسم أصبح ملصق الدورة الـ36 (7 ـ 19 مايو/أيار 1983). الأمر نفسه انسحب على الإيطالي فيديريكو فيلّيني، الذي ظهرت جُملته الشهيرة "تحيا السينما" على ملصق الدورة الـ56 (11 ـ 25 مايو/أيار 2003)، والذي أنجز سابقاً، بريشته الساحرة، ملصَقَي الدورتين الـ35 (14 ـ 26 مايو/أيار 1982) والـ47 (12 ـ 23 مايو/أيار 1994).
ملاحظة أخيرة: يبدو، باستعراض سريع لملصقات مهرجان كانّ أنّ للسينما الإيطالية، نجمات ونجوماً ومخرجين وأفلاماً، النصيبَ الأكبر في الحضور في هذا الفنّ البصريّ، يليها الحضور الفرنسي، مع غياب شبه تام لبقية دول القارة الأوروبية، ولغيرها.