معلمة متقاعدة مع "سيد سن اليأس" ليو غراند

16 فبراير 2023
تستمد أجزاء الفيلم إيقاعها من مشاعر المرأة المتخبطة (سيرتشلايت بكتشرز)
+ الخط -

تخوض المخرجة الأسترالية صوفي هايد رحلة سايكولوجية لاكتشاف الذات عبر فيلمها الأخير Good Luck To You, Leo Grande بسيناريو غير مألوف كتبته كايتي براند، يتحدى بحواراته الفلسفية وأفكاره غير التقليدية نوع "الكوميديا الجنسية"، وما راج منها من أفلام ومسلسلات ظلت حبيسة المساحات الآمنة، ويبتعد عن الفكاهة النابعة من المواقف ذات الطبيعة الجنسانية والمغامرات الرومانسية، إلى أخرى أكثر واقعية، من المرجح أنها ستبقيه خارج قوائم أفلام عيد الحب لهذا العام، مع أنه يفرض نفسه منافساً خطراً على كل من شباك التذاكر ومهرجانات الجوائز.

على غرار مسرحيات الحجرة، تدور أحداث الساعة والنصف من الفيلم داخل جدران غرفة فندق، تحجزها الملعمة المتقاعدة نانسي ستروكس (إيما تومسون)، لقضاء الوقت مع "سيد سن اليأس" ليو غراند (داريل ماكورماك)، وهو شاب عشريني يعرض خدماته المتنوعة إزاء مبالغ مالية مدفوعة مسبقاً. يتشارك الاثنان وقتاً نوعياً، مليئاً بالمكاشفات النفسية والروحية والاكتشافات الجسدية والعاطفية، وتفضي اجتماعاتهما المجدولة زمنياً ومكانياً إلى تغييرات جديدة تطاول كلّاً منهما في جوهر حياته ومعتقداته وعلاقاته مع المحيطين به.

تتطلب وصفات كهذه، أي أفلام الغرفة الواحدة، ذات العدد المحدود من الممثلين الرئيسيين، قوة في الأداء التمثيلي وجرعة عالية من الكثافة الحوارية والفكرية، وابتكاراً في التصوير السينمائي، يمنح المسافات المحدودة شساعة لا نجدها في الواقع. تعتمد بنية تلك الأفلام، كما جرت العادة، بشكل لا مهرب منه على التضاد بين الشخصيات الموجودة في الحيز المشترك، قسراً أو طوعاً، وما يمثله كل منها قبيل اللقاء وبعده.

لا يبخل الفيلم بأي من تلك المتطلبات الدرامية، لا بل يتوخى الحذر في عياراتها الدقيقة، إذ يشكل التضاد بين الشخصيتين العمود الفقري للصراع الدرامي الدائر بينهما، فنانسي والدة محبطة وامرأة محافظة لديها أفكار مسبقة ومحدودة عن العلاقات الحميمية والجسد والعمل في مجال الجنس، ولم يسبق لها أن اختبرت الرضا الجنسي في علاقتها الزوجية التي استمرت لأكثر من ثلاثين عاماً. أما ليو، فهو النقيض لكل من ذلك؛ شاب ليبرالي منفتح، يستمع إلى نداءات جسده والآخرين من دون خجل، ويعاني بدوره من مشاكل مع والدته، وأزمة في هويته الشخصية.

تقسم لقاءات الثنائي المتعددة الفيلم إلى أجزاء أربعة، لكل منها مطباته وحساسيته ونبضه الخاص. لا تروي الأجزاء قصة انفتاح تدريجي، وإنما تتأرجح بين صد ورد، تستمد إيقاعها من مشاعر نانسي المتخبطة، وسط أحاديث بعضها صاخب، يستدعي اتصالاً من إدارة الفندق، وأخرى أكثر هدوءاً وشفافية، تبوح من خلالها كل من الشخصيتين بمخاوفها بصوت عالٍ، للمرة الأولى ربما.

يعزز ليو غراند الإيجابية الجنسية والجسدية، مشجعًا على العمل الجنسي إلى حد لا يمانع في اعتباره جزءًا من الخدمة العامة والمجتمعية، ويصور حميمية غرف النوم، نازعًا عنها قدسية "الخصوصية"، وكل ما يمكن أن يثقل تلك التجربة الأكثر حساسية في تاريخ البشرية، باعتبارات مسبقة أو صور مثالية.
تتسع أمتار الغرفة القليلة لكل شيء؛ للأكل، والبكاء، والمتعة، وتبادل الأحاديث الطويلة. فعلى سرير الفندق الأثير، يتحدث الغريبان عاريين عن معنى الأمومة والشيخوخة والهوية والحب، ويتشاركان إحباطاتهما على اختلاف عمريهما وتجربتهما الحياتية.

العراء في الفيلم هو عاطفي بقدر كونه جسدياً لكل منه ثقله وحدته، إذ يعترف ليو باتخاذه هوية مزورة، وتسخر نانسي من تجاربها الجنسية، معتبرةً أن للراهبات حصة أكبر منها في هذا المجال، معبرة من دون خجل عن ثقل الأمومة ومتاعبها، وعما كان من الممكن أن تغدو عليه لو أنها لم تكن أماً لاثنين.

تلك التهامسات الرقيقة وما تحمله في طياتها من حقائق وحشية، لا يرغب الجميع في سماعها، تجعل من فيلم هايد نسوياً من دون تكلف، يعري الرؤى الرجعية حول الجنس ومتعة المرأة بشكل خاص، ولا يخشى دحض الأدوار النمطية المسندة عموماً إلى النساء، لكنه مع ذلك يبقى بعيدًا عن نهج "قوة الفتيات الخارقات".

يتفادى ليو غراند فخ التناقضات الحادة التي قد نراها في أي صراع ثنائي الجانب. ويبرز من خلال تبادلاته ونانسي كيف يمكن لوجهتي نظر متعاكستين أن تكونا صحيحتين في الوقت ذاته، فلا يثني الفيلم على انفتاح ليو في وجه محافظة نانسي، ولا يرجح طريقة عيش على أخرى. بل على العكس، تتراكم كل من تجربتي الثنائي لتنصهر في طبقة واحدة أكثر متانة ومرونة، يستند إليها ليو لمواجهة ماضي عائلته والكشف عن حقيقة عمله لشقيقه، وتعبرها نانسي كالماء، سامحة لجسدها بالتنفس من جديد، بعدما صلبه البرود العاطفي والجنسي لمدة طويلة.

لا يصلح الجنس وحده تلك الأزمات العالقة، والأصح أنه ينصلح على أثر مواجهتها، إذ يقترح الفيلم موضوعة المتعة الجنسية، وهي الدافع الأساسي للقاء الثنائي، على أنها نتيجة غير مباشرة للصحة النفسية والعلاقة الودودة مع الجسد والذات والآخر، يتلمس كل من ليو ونانسي بدايتها مع نهاية قصتهما القصيرة. بعض الأشياء لا يمكن إصلاحها بالطبع، منها علاقة ليو بوالدته المتأزمة، كما ترهلات الجلد أسفل بطن نانسي وثدييها المتدليين بفعل الجاذبية، وسنوات بددها الخوف والفهم الخاطئ. الحل، كما يقترح صناع الفيلم، يكمن في جرأة النظر إلى الأشياء كما هي؛ في حب التجاعيد والانزياحات والأبناء المختلفين، حبًا غير مشروط، من دون قيود.

يركز الفيلم على الجنس في حياة النساء الأكبر سناٍ بشكل خاص، موضوع ما زالت تلتف عليه كثير من الأعمال الفنية المعاصرة المعنية بالتجارب الجنسية، حتى أن بعضها يعده "منفراٍ" من الناحية الاستطيقية، ومغامرة تجارية محكومة بالفشل نظرًا لمتابعيها اليافعين من جماهير منصات البث. تلك أمور لا يهتم بها ليو غراند حين يتعامل مع جسد نانسي، ومن خلفه جسد تومسون ذات الثلاثة وستين عاماٍ، بعدسة تخلو من أي تحديقة ذكورية، مصوراً جسداً نحته الزمن بجرأة وفجاجة تذكرنا بنهج مسرح In-Yer-Face البريطاني الذي يعتمد أسلوب المواجهة، ورمي المواد الصادمة في وجه جمهوره غير المستعد. يباغت فيلم ليو غراند جمهوره بصور فجة ومفاهيم إشكالية، كالصحوة الجنسية لامرأة متقدمة في السن، أو إعادة النظر في مفهوم الجنس بوصفه عملاً، وتلك واحدة من أكثر مقولات الفيلم جدة وجرأة، إذ يلخص إلى أنه يمكن للجنس المأجور أن يكون حقيقياً أيضاً، طالما أنه يتجاوز الأفكار المسبقة ويحمل في طياته دعوة صادقة لحب الذات والآخر.

تجسد تومسون ببراعتها المعتادة الدوافع المتناقضة بين الرغبة والشك، صوتها القوي واثق ومرتجف في آن، أقدامها ثابتة على الأرض، لكنها مستعدة للتحليق في أي لحظة، محاكية بسخريتها من نفسها وآليات دفاعها النفسية حال عديد من النساء متوسطات العمر اللاتي يدفنّ حياتهن الجنسية خوفاً من صورة الجسد المثالية أو من الخزي والعار، ويعانين من تهميش عاطفي واجتماعي وتمثيلي يعتدنه مع مرور الوقت.

ينظر فيلم Good Luck To You, Leo Grande إلى موضوعات الجسد والمتعة بوصفها ضرورات إنسانية، ليس كرفاهية زائدة عن الحاجة، ويتعامل مع تعقيدات النشاط الجنسي خارج نطاقها الكوميدي أو الإيروتيكي المألوف، مرمماً العلاقة المضطربة بين الجسد والزمن، ومتحديًا ما تروج له صناعات السينما على أنه "جذاب فوتوغرافياً".

المساهمون