ما إن تلج إلى شارع المدارس في مخيم بلاطة للاجئين الفلسطينيين، شرق مدينة نابلس، شمال الضفة الغربية المحتلة، حتى يذهب نظرك تلقائياً إلى جدار ضخم على يمين الطريق، عليه نحو ثلاثين صورة متلاصقة بطريقة لافتة، لمجموعة من القرى والبلدات التي أُبيدت أو هُجّر أصحابها منها عنوة عقب الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين عام 1948، وإلى جانب الصورة علقت خريطة ضخمة تظهر بوضوح أسماء ومواقع تلك البلدات والقرى.
ليس هذا المعرض في مخيم بلاطة وحسب، بل في 17 مخيماً ومدينتين وقرية في الضفة الغربية، من أفكار وتنفيذ المصور الصحافي أحمد البظ، من مدينة نابلس، الذي حاول إحياء الذكرى الـ75 للنكبة بطريقة غير تقليدية، إيماناً منه بأهمية توعية الأجيال الفتية من اللاجئين بقضيتهم، والوصول إلى أوسع شريحة منهم.
يقول البظ لـ"العربي الجديد: "اخترت أن يكون معرضي في الهواء الطلق، فالناس لم تعد تتشجع كثيراً لزيارة المراكز الثقافية أو المؤسسات الرسمية لمشاهدة صور أو أعمال فنية. لنصل إلى أكبر عدد ممكن من المستهدفين أصحاب القضية نفسها، وضعت الصور في طريقهم، وفي الأماكن التي تشهد تزاحم الأقدام وممراً إجبارياً في بعض الأحيان لمعظم سكان المخيم".
يعمل البظ (30 عاماً) في التصوير والإنتاج المرئي، ولديه اهتمامات واسعة بالقضايا الوطنية الفلسطينية، وتحديداً ملف اللاجئين. ويوضح قائلاً: "بحكم عملي استطعت قبل عامين الحصول على تصريح للوصول إلى الداخل الفلسطيني المحتل عام 1948، ما أتاح لي تحقيق حلمي منذ الصغر بزيارة بلادنا المحتلة التي تعلمنا عنها في المدارس وعبر وسائل الإعلام ومن الأدبيات الفلسطينية".
ويضيف ممازحاً: "ينطبق عليّ المثل الشعبي القائل: هجين وقع في سلة تين. فأنا سافرت إلى دول عدة، وتعرفت إلى أماكن كثيرة، لكن طموحي كان أن أتجول في بلدي المحتل. جدتي مهجرة من بيسان، وجدي خسر محله التجاري في حيفا إبان النكبة".
خلال عمله، تعرف البظ على شباب من الداخل المحتل، وكان ينسق معهم في وقت فراغه لجولة في القرى والبلدات المهجرة، وبعدها بدأوا بوضع برنامج مدروس للمواقع التي ينوي زيارتها وتوثيقها بالصور. كان الهدف في بادئ الأمر تعليم ذاتي واطلاع شخصي على معالم تلك المناطق التي أبيدت على يد عصابات الاحتلال، وتصوير الأطلال المتبقية، كما يشرح.
مع الإعلان عن قرب إحياء الذكرى الـ75 للنكبة، لفت الرقم انتباه البظ، فـ"هذا رقم أيقوني. العالم يركز أكثر على المناسبات التي تصادف ذكراها السنوية الـ25 أو الـ50 أو الـ75 أو المائة. وأنا لدي كم كبير جداً من الصور ذات العلاقة بموضوع النكبة، بل هي في لب وصميم النكبة، فاللقطات تعود للقرى التي فر منها اللاجئون بسبب المجازر التي ارتكبت فيها، وهم بعد كل هذه السنوات يحلمون بالعودة إليها، ويربون الأجيال المتلاحقة على هذا الأمل. ومن هنا نبعت فكرة معرض في المخيم، فأبناء اللاجئين هم أولى من غيرهم بالتعرف إلى بلادهم الأصلية التي يحفظون أسماءها عن ظهر قلب"، يقول لـ"العربي الجديد".
يريد البظ أن تكون الصور في متناول الجميع، ويصرح: "أردت أن أذهب أنا إليهم، لإدراكي أن عامة الناس من اللاجئين أو المواطنين لا يحبذون زيارة الأماكن المغلقة، فكان الحل في وضع الصور في طرقاتهم وبين أزقة المخيم وحواريه". وعلى مدار أيام كاملة، عمل البظ على إلصاق وتعليق عشرات الصور، في 17 مخيماً في الضفة الغربية، وموقعين في مدينتي بيت لحم ورام الله، والموقع العشرين كان في قرية. ويشرح: "كنت أختار جداراً كبيراً ظاهراً في المخيم بالتعاون مع ناشطين هناك، ونشرع بإلصاق وتعليق الصور، وتعمدت أن تكون بشكل متراص لتظهر وكأنها إطارات، أو لوحة كبيرة، ما يشجع المارة على الوقوف والمشاهدة".
حاول البظ طلب مساعدة من المراكز الثقافية لتمويل مشروعه، لكنه عدل عن ذلك، بعد أن حصل على سعر مغر من مطبعة محلية، فكانت التكلفة الإجمالية لطباعة الصور عدة نسخ وتعليقها، مع كلفة التنقل، لا تزيد عن 500 دولار، تكفل بها من جيبه الخاص.
يقول: "الناس اليوم تعيش حياتها على شبكة الإنترنت. كل الصور والفيديوهات يشاهدونها عبر منصات التواصل الاجتماعي، فكان قراري أن يكون معرضي على أرض الواقع. هذا ليس مجرد تصفح، بل معاينة حقيقية".
لا يتردد في أن يقر بانزعاجه الشديد من الخطاب السياسي الفلسطيني الذي يقسم فلسطين إلى مناطق"، ويعلّق: "للأسف بات هذا التقسيم على ألسن كثيرين. تسأل طفلاً أين يعمل والدك، فيجيبك في إسرائيل أو في بيت شيمش، ولا يذكر الاسم الأصلي للمدينة العربية الفلسطينية التي يعمل فيها، مثل حيفا أو يافا أو غيرها. بكل أسف، ما ساعد على ذلك هو الخطاب الرسمي للسلطة الفلسطينية".
المعرض يحاول أن يلج إلى الأعماق، ويتحدث عن الجسم الأول للمستعمرة الإسرائيلية التي تشكّلت عام 1948، والنتيجة الأولى لنشوء هذا الكيان كان التهجير والتطهير العرقي والنكبة. "حاولت أن أعيد تذكير الناس بالأدبيات الأولى للثورة الفلسطينية التي كانت تطلق في بيانها على المدن الإسرائيلية اسم مستوطنة أو مستعمرة، من خلال التعليق الموجود أسفل كل صورة، مثلاً: قرية يازور المهجرة التي بُنيت عليها مستوطنة كذا... هي محاولة لإعادة اللغة التحررية التي قامت عليها الثورة الفلسطينية"، يقول المصور الفلسطيني.
ويضيف: "لم أبتدع شيئاً جديداً، بل هذه محاولة للتذكير بالقيم الوطنية والثورية التي تربينا عليها، ودفع الجيل الجديد للسؤال: هل تل أبيب مستوطنة فعلاً؟ البدائل هي مفاهيم مشوهة يحاول البعض تمريرها، وهذا ما أرفضه".
لا ينكر البظ أن المعرض في الهواء الطلق أثار لديه تباينات بشأن ردة فعل المارة الذين انقسموا مثلاً بين غير مبالين في كثير من الأحيان، إلى آخرين وقفوا وتفحصوا بعض الصور، وجزء ثالث، "وهم الأقلية للأسف"، امتلكوا الوعي والمعلومة. "أقولها بكل أسى، هناك فجوة كبيرة وضعف في التعبئة السياسية. هناك مخيمات تمتاز بقوة العمل التنظيمي وفيها مجموعات شبابية ومراكز ثقافية، وهناك مخيمات أخرى تفتقد بشدة إلى كل ذلك أو إلى معظمه. لا ألوم من كان غير مبال، فالمسحوقون مادياً وسياسياً لا يفكرون إلا بلقمة عيشهم، ويطرحون تساؤلات عن جدوى تعليق صور، أو تنظيم ندوة، أو ما شابه".