مشهدان موسيقيان: هضاب وقمم

20 فبراير 2022
+ الخط -

بعد طول معاناة، جراء منع عزف مقطوعاته الموسيقية وحرمانه من وظيفتي التدريس الجامعي وقيادة الأوركسترا من قبل النازيين، منذ استلم أولئك الحكم في كلّ من ألمانيا والنمسا عام 1933، آن الأوان لـ أنطون فيبرن (1883 - 1945) أخيراً أن يتنفس الصعداء. إذ ها هي الحرب العالمية الثانية قد وضعت أوزارها، بعدما هُزم جيش أدولف هتلر وسقط نظامه مع دخول قوات الحلفاء العاصمة الألمانية برلين. عندئذ، بدا فيبرن، ذو الثانية والسبعين عاماً، على موعد مع شهرة ظلّ يرنو إليها كلّ حياته المهنية، ولم يحظَ بها قط.

عقب وليمة غداء هانئة على مائدة بيت العائلة في بلدة ميترسيل النمساوية، احتفالاً بقرب الفَرَج، خرج المؤلف الموسيقي لوحده يدخن سيجاراً. في واقعة أشبه بحادثة عادة ما تمليها هستيريا الحروب، فوجئ بجندي أميركي يقتحم خلوته، شاهراً مسدسه، ليطلق عليه النار، فيصيبه برصاصات ثلاث. قبيل موته متأثراً بجراحه، همهم المؤلف بكلماتٍ ثلاث: "لقد قُضي الأمر" (Es ist aus).

قُدّر لشهرة فيبرن أن تنطلق من دونه. منذ خمسينيات القرن الماضي، صار يُشار إليه بـ "أبو الموسيقى الحديثة". عبقريته في بث الحياة داخل تراكيب الألحان "الاثني عشرية اللامقامية" المعقدة والعصية على الأذن، قد أطربت سامعيه وأدهشت معاصريه. إيغور سترافينسكي، وصف موسيقاه بـ "جواهر ماس براقة"، أما شونبرغ فقد قال عنها "شهقات فرح". من دون أن يدري، صار فيبرن قمة من قمم الموسيقى، بمحاذاة قمم أخرى كـ سترافنسكي وشونبرغ.

 

 

ثمة قمم سابقة شاهقة، منذ يوهان سباستيان باخ، ومن جاء قبله، إبان القرن السادس عشر، مروراً بـ موتزارت في القرن الثامن عشر، فـ بيتهوفن وصولاً، إلى ريتشارد فاغنر ومن أتى من بعده على أعتاب القرن العشرين. من بين القمم، تلك التي شُيّدت في زمانها ونعمت بقدر من الشهرة والنجاح، ومنها التي كشفت عن نقابها سيرورة التاريخ ومحاسن الصدف، أو مآسيها أحياناً، كـ فيبرن، بعد مرور الزمن، وتغيّر الأهواء السياسية والذائقة المجتمعية.

اعتاد ممارسو الموسيقى أو هواتها وعُشّاقها على التطلّع إلى أولئك العباقرة والأساطين، والاقتداء بهم. ليس في مجال الموسيقى الكلاسيكية الغربية وحدها، بل الشعبية المحلية والجماهيرية، كـ البوب، والأدائية كـ الجاز. ليس ثمة موسيقيٌ طموح لم يحلم يوماً، وهو يكبر على دروب الاحتراف، أن يغدو يوماً قمةً تُضاف إلى سلاسل القمم، أو تُحاذيها على الأقل، سواء في حياته أو ربما بعد مماته، أن يسجّل سبقاً إبداعياً، أن يترك أثراً تاريخياً للأجيال التي تليه، وأن يشار إليه ذات مرة بالبنان والعرفان خلال النقاشات الخاصة والعامة، والكتابات النقدية والتوثيقية.

أما في الزمن الراهن، فالأمر يبدو وقد اختلف جذرياً، وتبدّل كليّاً عن سابق العهود والعصور؛ إنّه زمن الوفرة. وفرةٌ لم يعرف التاريخ مثيلاً لها. اقتضتها ظروف استثنائية. وأفضت إليها عوامل عدة، نشأت بفعل السيرورة التطورية للحضارة الإنسانية؛ إذ بات المشهد الثقافي المعاصر، عموماً، والموسيقي على وجه الخصوص، مُتخماً بالمحتوى، بالكم كما بالكيف.

امتلِك حاسوباً محمولاً ووقتاً وشغفاً، تصِر مؤلفاً موسيقياً، أو فناناً تشكيلياً، أو مخرجاً سينمائياً، أو كلّ ذلك في آنٍ معاً. وإذا أردت أن تكسب جمهوراً، تجذب إليك أسماع الناس وأنظارهم، ما عليك سوى أن ترمي بإبداعاتك في عباب الإنترنت، بمنصّاته المرئية والسمعية، لتغدو في غضون دقائق من بين المؤثرين في الثقافة العالمية والمنتجين لها. قد تعلو عن الأرض قليلاً أو كثيراً، وسيتحلق حولك عدد من المهتمين... إنّه أشبه بنادٍ خاص من المعجبين بك وبالمتابعين لأعمالك، سيستمر إلى حين، قد يطول أمده أو يقصر؛ إذ هنالك مئات الآلاف، أو الملايين من المبدعين الآخرين، يملكون ما تملكه، ولديهم ما لديك، بأقلّ منك، أو أكثر.

ذلك ما يُشير إليه الشاعر الأميركي الحداثي والمؤرشف الفني كينيث غولدسميث Kenneth Goldsmith (صاحب موقع Ubuweb الإلكتروني للفنون الحديثة) خلال حديث له مع المؤلف الموسيقي الكندي الشاب سامويل آندريّيف Samuel Andreyev عبر قناة الأخير على "يوتيوب". حين تحدث عن "النمط الأفقي" للثقافة المعاصرة. وذلك مقابل النمط الهرمي والعمودي الذي كان سائداً في ما مضى.

العامل البديهي والمباشر لذلك التحول الدرامي في المشهد الثقافي، هو الثورة التكنولوجية التي خفّضت من تكاليف الإنتاج، وأشاعت أدواته بين الناس، كما سهّلت الولوج والاختراق عبر شبكات المجتمع الرقمي، وصولاً إلى جموع من المتلقين بحجم الكرة الأرضية، ثم أمّنت لإنتاجاتهم التوثيق الناعم وجعلته متاحاً للجميع، سواء داخل قرص ذاكرة (هارد ديسك) أو مرفوعاً على غيمة افتراضية، ابتداءً بفيديو عن وصفة شاورما منزلية، إلى فيلم آرت هاوس سوريالي لأحد الفنانين المفاهيميين.

زد على ذلك سهولة الحصول على المعرفة ومجانيتها في الغالب؛ إذ ليس من مهارة مقترنة بالإنتاج الموسيقي، لم تعد تُعرض عبر مئات مقاطع الفيديو المرفوعة على يوتيوب؛ حلقة جديدة من عبور التعليم الموسيقي من العائلة إلى المجتمع، ومن الخاص إلى العام. ظاهرةٌ، كانت قد بدأت بتأسيس المعاهد والكليات الموسيقية العامة إبان القرن التاسع عشر.

أما اليوم، فتزخر الإنترنت بكم لا يُحصى من البرامج التعليمية والمواد التثقيفية المرتبطة بجميع جوانب المعرفة الموسيقية، من العزف والغناء إلى التأليف والتوزيع، وحتى الإنتاج الصوتي. إرشادات لا تعرف حدوداً ولا لغة، تصل إلى أيّ كان، كان من كان. ما دامت لديه الرغبة في أن يتعلم، وشبكة إنترنت تعمل.

هي ثقافة أفقيةٌ أيضاً، لجهة أنّها لا تعرف محوراً جامعاً أو قطباً ثقافياً جاذباً. أصبحت اللامركزية سمة المشهد الإبداعي الذرّي، المُتخم، المتعدد والمتشعّب. لم تعد باريس، فيينا أو نيويورك، الحواضر الحصرية للريادة الإبداعية، بل صار بوسع أيّ موهبة شابة، في أي بلدة أو قرية صغيرة، في أيّة بقعة في العالم مشبوكة مع الراهن، أن تنتج فناً خلاقاً، قد يلمع ويشع أو يُهمل ويضيع في عباب الإبداعات الأخرى. لكن، ليس من دون أن تلتفت إليه، صدفةً أو عن سابق بحث وترصّد، بعض الأنظار المُلتفتة، والآذان الصاغية.

كلّ الأرحام، إذاً، تلك التي كان لا بدّ منها لأجل ولادة قامة أو قمة فنية، تبدو كما لو أصابها العقم. في المقابل، باتت الإنترنت ذلك الرحم الوسيع وسع الكوكب، يلد منه في كل يوم آلاف المشتغلين بالفن وما شابهه. في الماضي، كانت الموسيقى صنعة متوارثة. كان للموسيقى راعٍ يهب المال وآخر يُتيحُ الوسائل، سواء أكانت الكنيسة، أم القصر أو الدولة بمؤسساتها، أو حتى الاقتصاد الحر بشركاته الإنتاجية وغاياته الربحية. ظلت الموسيقى سيرورة من الكشوفات والإسهامات الرائدة، من اختراع اللحن المُجسّد للشخصية الدرامية في الأوبرا Leitmotif بقلم ريتشارد فاغنر، إلى رقصة القمر بقدمي مايكل جاكسون.

أما الآن، مع كلّ من الوفرة الهائلة والمشاعية الكوكبية، وخصوبة الإنترنت التي تزداد قُدُماً مع الوقت، يكاد يكون كما لو أنه لم يعد من جديد يُضاف ولا دلو يُدلى به. لا أبٌ ولا أم لأيّ جنس هجين أو نهجٍ جديد أو لون فريد، كما كان أنطون فيبرن للموسيقى الحديثة. كما أنّه لا شهرة عارمة ترفع من قامة الفنان عالياً، يظفر بها حياً، إن لم تحرمه منها مكيدة أو رصاصة، أو يُخلّد اسمه علماً؛ فيغدو قمة بين القمم. في المقابل، ترى اليوم على مدى الإنترنت هضاب خَلْقٍ تبعثرت على سهوبه الشاسعة. تزهو سفوحها بألوان لن يحصرها طيف، ولن تدركها ذاكرة، فرديةً كانت أم جمعية.

المساهمون