مسلسلات المغرب العربي: تمثّلات الرقابة والتاريخ

20 يناير 2021
من مسلسل "الزعيمة المغربي (يوتيوب)
+ الخط -


سؤال السلطة وتمثّلاتها في المسلسلات التلفزيونية المغاربيّة، أكثر المواضيع المُغيّبة في الصحافة الفنية اليوم. فالحساسية السياسية للسؤال تجعل مهنيين كثيرين ينفضّون عن تناول هذه العلاقة، المُتواشجة والمركّبة، بالدرس والتحليل، والتي تتحكّم في تعيين منطلقاتها مفاهيم فكرية أخرى، خارجة عن الصورة وجمالياتها، كالأيديولوجيا والتاريخ والرقابة، بسبب غيابل المتخيّلة تلفزيونياً وسينمائيا سعة مُطالعة في التاريخ المعاصر للعرب، وعلاقة ذلك بالصورة.
صورة أفضت، في نهاية الأمر، إلى كتابة تاريخٍ مُضاد للسلطة وتاريخها الرسمي. هذا النوع من الإبداع التخييلي لم تُعن به مسلسلات مَغاربيّة، ولم تحسم بعد مع ما تعانيه من رداءة وهشاشة وارتباك. وتناول قضية كبيرة ومركّبة كالسلطة في متونها الدرامية، مقارنة مع أعمالٍ سينمائية كشفت النقاب ـ ولو بشكلٍ محتشم ـ عن صُور وتمثّلات سلطة تاريخيّة قاهرة، لا يزال هسيسها مُؤثّراً على حرية الأفراد، واقعياً وإبداعياً. والسبب عائدٌ إلى أنّ الدراما المغاربية لم تصل بعد إلى مرحلة يمكنها فيها أنْ تثور، فنياً وجمالياً، على مختلف أشكال السلط السياسية والاجتماعية والثقافية الرمزية، خاصّة أنّ الدراما التلفزيونية نفسها تنتمي إلى المُؤسّسة الرسمية، فيستحيل أنْ تتناول موضوعاً سلطوياً ينتقد ممارساتها ويعرّي فقرها وعدم نجاعتها ككيانٍ رأسمالي مُتوحّش في إداة شؤون البلد، سياسياً واجتماعياً.
صراع الصورة والسلطة
هناك أيضاً "أشباحٌ" في لجان متخصّصة في التلفزيون المغربي، وظيفتها تقطيع مَشاهد وحذف أخرى، لاعتقادها أنّها (المَشاهد) مُخلّة بـ"الأخلاق العامّة"، ولا تتماشى مع تقاليد وسياسة وضوابط الجهاز التلفزيوني، الذي يُفضّل مسلسلات ترفيهية رومانسية، بدلاً من أنْ يتنطّع مخرجٌ تلفزيوني، مغربي أو تونسي أو جزائري، لتوجيه نقدٍ لاذع للسياسة ومُمارساتها المقيتة.

هناك أيضاً "أشباحٌ" في لجان متخصّصة في التلفزيون المغربي، وظيفتها تقطيع مَشاهد وحذف أخرى، لاعتقادها أنّها (المَشاهد) مُخلّة بـ"الأخلاق العامّة"، ولا تتماشى مع تقاليد وسياسة وضوابط الجهاز التلفزيوني

هكذا يُساهم الدعم والإنتاج، ضمنياً، في تغريب مسلسلات درامية، تحاول التفلّت من سلطة مجتمعية، مألوفة ومتكرّرة، في الإنتاجات المحلية، وتهتمّ بمفهوم السلطة في علاقتها بنظام الصورة، الذي لا يخرج فكرياً عن السياق التاريخي الذي أفرز هذه السلطة. وبما أنّ الصورة، الفنية والسينمائية والفوتوغرافية، تأخذ في طرائق تشكّلها طابعاً سلطوياً على المُشاهد، بتأثيرها في متخيّل الفرد، خصوصاً الصورة التلفزيونية التي تقتحم حياة الناس وحميميّاتهم الخاصّة في المنازل، فإنّ هذه الصورة تغدو في صراع كليّ مع مفهوم السلطة نفسه.
غلبة الصورة (فنياً) على السلطة (إيديولوجياً) يُمكن أن تُتيح للدراما المغاربيّة أنْ تبتدع أشكالاً فنية وجمالية، وتكون السلطة موضوعاً درامياً، وإنْ تظلّ (الدراما) مُتبرّمة، أحياناً كثيرة، من النقد إزاء هذه السلطة.

لكنْ، إذا حدث العكس، أي أنْ يغدو نقد هذه السلطة فجّاً ومباشراً وخالياً من أيّ جمالية تُذكر، فإنّ السلطة تثور غالباً، وبشكلٍ واقعي، على العمل الدرامي، ويتدخل معها مفهوم الرقابة، ليُمارَس منعٌ تعسفيّ على المسلسل وصِناعته.

على هذا الأساس، تُطرح تساؤلات عدّة: كيف يمكن فهم علاقة الدراما المغاربيّة بالسلطة؟ هل يتعلّق الأمر بمدى تذويب السلطوي في التلفزيوني ـ الدرامي، ودرجات اختمارها؟ أم بتمثّلها لمختلف تمظهرات هذه السلطة وأشكالها الهجينة في المتون الدرامية المغاربية؟ إلى أيّ حد استطاعت الصُور التلفزيونية احتواء هذه السلطة وموروثها القمعي، وتخييلها وفق مستويات جمالية في مَشاهد ولقطات، تتجرّد فيها السلطة من لبوسها الواقعي، وتصبح بمثابة سلطة تاريخية ورمزية مترسّبة في بنية المتخيل المغاربي؟ أم أنّه لا يوجد أصلاً ما يُمكن أن يُلحم هذه العلاقة بالدراما، مع انتماء المؤسّسات التلفزيونية إلى كيانات رسمية بامتياز؟ هل يجوز الحديث، في هذه الحالة، عن نمطٍ درامي اجتماعي واحد متكرّر، ترتكز عليه الدراما التلفزيونية المغاربية؟ أمْ أنّنا أمام سلطة متنوّعة من المعالجة، شرط إبقاء هذه المسلسلات بعيدة عن موضوع السلطة وسراديبها المعتمة؟

كيف يمكن فهم علاقة الدراما المغاربيّة بالسلطة؟ هل يتعلّق الأمر بمدى تذويب السلطوي في التلفزيوني ـ الدرامي، ودرجات اختمارها؟

تتحدّد السلطة في الدراما المغاربية باعتبارها تاريخاً مترسّباً من القهر، إما بسبب جرح الاستعمار، وما خلّفه من هشاشة وارتباك في نفوس المجتمعات المهزومة والتابعة، أو بسبب سلطة سياسية محلية تسيطر ـ بطرق غير مشروعة ـ على الأفراد.

هذا انعكس على الدراما التلفزيونية، التي حاولت تشريح السلطة في أعمالها، وأنتجت صُوراً عدّة من الألم والقهر إزاء السلطة.

دور الربيع العربي

نظراً إلى ما لا نهائية هذه الصُور السلطوية، سياسياً واجتماعياً، تُقدَّم هنا بعض النماذج الدرامية المغاربية، لفهم هذه العلاقة المتنافرة بين المسلسلات التلفزيونية والسلطة. وإنْ ساهمت موجة الربيع العربي، ضمنياً، في تأجيج هذه العلاقة، وجعلها مفتوحة وممكنة، في ضوء المسار الديمقراطي الذي شهدته البلاد المغاربية، فالربيع العربي لعب دوراً كبيراً على مستوى الجهر بالحقائق، ومساعدة المجتمع على إيجاد صوته الضائع والمفقود في ثنايا الذات ومجاهلها.

الصورة/ الجسد أساساً أيقظت في وجدان الشعوب العربية ضرورة الخروج إلى الشارع لإسقاط الأنظمة الديكتاتورية، فكان ضرورياً أنْ يتأثّر الإبداع البصري بهذا الحراك. تبقى السينما أكثر الفنون البصرية التي استوعبت سِيَر الناس وحكاياتهم، روائياً ووثائقياً. لكنْ من دون أنْ يتسرّب ذلك إلى الدراما المغاربية.

هنا، يكمن جوهر العلاقة. فالسينمائي يشتغل غالباً بحدسه وإبداعه، وبدعم أجنبيّ يخوّل له إمكانية قول ما يشاء بالطريقة التي يُريد. أما المخرج التلفزيوني، فأسير سلطة مؤسّساتية وقانونية. عامل آخر: إبّان الربيع العربي، لم تُحضِّر الدراما المغاربية نفسها لتلقّي مواضيع سياسية كهذه، ومعالجتها في أنظمة صُورها. فرغم مرور 10 أعوام على بدايته، لا تزال هذه المسلسلات رتيبة وعقيمة، على مستوى النصّ، أمام إمكانات مادية هائلة لدى بعض المؤسّسات. لكنّ ذلك لم يكُن عاملاً إيجابياً لصناعة درامية جديدة، تنتقد ولا تُماري، وتُظهر ولا تُضمر، وتكشف ولا تخفي.

حقيقةً، لا أحد يُشاهِد هذه المسلسلات الدرامية، ذات الخلطة الواحدة والصُوَر المستساغة والمكرّرة في ذهن المُشاهد العربي منذ ثمانينيات القرن الماضي
حقيقةً، لا أحد يُشاهِد هذه المسلسلات الدرامية، ذات الخلطة الواحدة والصُوَر المستساغة والمكرّرة في ذهن المُشاهد العربي منذ ثمانينيات القرن الماضي. علماً أنّ بعض المسلسلات، في تونس مثلاً، أدانت السلطة وجبروتها في حقّ الناس، وإنْ بشكل خفي، لكنّها موجودة على الأقل، مقارنة مع المغرب، الذي ظلّت السلطة في مسلسلاته حاضرة، لكنْ كـ"سلطة تاريخيّة" تنتقد الآخر الاستعماري، وتأثيراته السياسية والنفسية، أو عن طريق سلطة بطريركية أو أبيسية، تبقى هي الصورة الأكثر استعمالاً، في ما يتعلّق بموضوع السلطة وتمثّلاتها في الدراما المغربيّة.
في مسلسل "خلخال الباتول" (المغرب، 2002)، لجمال بلمجدوب، تشتغل السلطة في ارتباط حميمي مع التاريخ. فالأولى تسطو على المَشاهد الدرامية، وتجعلها تابعة لها، والتاريخ بدوره يُمارس سلطته القاهرة والساخرة من مصائر أفراد مستضعفين، يحملون في أجسادهم أرضاً مُغتصبة ووطناً جريحاً على أهبة الرحيل، وإنْ لم يجعل بلمجدوب السلطةَ تطفح على سطح الأحداث، بل يُقنّنها في حكاية رومانسية بدوية، تجمع بين عشق الآخر وحبّ الأرض والانتماء إلى وطنٍ مُستعمَر.
وبما أنّ السُلطة مفهومٌ متشعّب، فإنّ المخرج نجح بقوّة في الوقوف عند صُورٍ من أشكال هذه السلطة، تارة بتسلّط القائد والشيخ الأعلى للقبيلة وأفرادها، بسبب عدم قدرتهم على دفع الدين من المردود الفلاحي، وتارة أخرى تتمظهر السلطة من خلال الدين (نموذج الفقيه)، الذي يتماهى مع السلطة السياسية القبلية في محاولة فرض سلطة عليا تتمثّل بالاستعمار.
أحياناً، تأخذ صُور هذه السلطة خطاباً يكشف صورة مُجتمعٍ تقليدي يعيش تحت الاستعمار. ورغم نجاح هذا العمل الدرامي، تأليفاً وإخراجاً، فإنّ مفهوم السلطة في المسلسل يظلّ مرهوناً بسياق تاريخي، ينظر إلى المستعمِر باعتباره صانع هذه السلطة القهرية، وإنْ كان لا يلتفت إلى "تفريخ" هذه السلطة المركزية (الاستعمار) لأشكال أخرى من التسلّط، لدى الشيخ والفقيه. التاريخ مرجعاً في مسلسل "جنان الكرمة" (المغرب، 2001)، لفريدة بورقية، تتكرّر مظاهر السلطة التاريخيّة مرّة أخرى، بالصورة نفسها، وبتراتباتها وشخصياتها ومصائرها في القبيلة.
ورغم أهميّته في بدايات الألفية الجديدة، يبدو هذا النوع من الدراما، اليوم، ساذجاً، نظراً إلى التحوّلات العميقة التي طاولت المُجتمعات العربيّة، ومعها الدراما التلفزيونية المَغاربيّة، بحيث أنّ العودة الدائمة إلى تاريخ السلطة الاستعمارية أضحى مُستساغاً ومألوفاً لدى مُشاهدٍ يحلم بمُشاهدة عمل درامي قريبٍ من الواقع الذي ينتمي إليه. ومع أنّ مسلسل "الزعيمة" (المغرب، 2019)، لعلاء أكعبون، كاد أنْ يُحقّق، موضوعياً، هذا الطموح البصري، بارتياده عالم السياسة والأحزاب، إلّا أنّ مُعالجته ظلّت مُرتبكة وخائفة أمام جبروت الموضوع، وعدم قدرة المخرج على الغوص فيه، والعزف في مناطق حساسّة ترتبط أكثر بالواقع المغربي. خاصّة أنّ السلطة فيه غائبة، رغم أنّها جوهر العمل التلفزيوني، الذي يستطرد في مَشاهد حبّ بدت كأنّها نشازٌ في قصّة، يُغذّيها جمود شخصيات عدّة. علماً أنّ المسلسل يتضمّن وجوهاً جيّدة، كيونس ميكري ومريم الزعيمي والسعدية لديب وأمين الناجي ونعيمة المشرقي.

 
لكن لهزالة النصّ تأثيراً سلبياً كبيراً على بعض المَشاهد. لذا، يبقى السؤال مطروحاً: لو أنّ المخرج توغّل أكثر في السلطة، وفي علاقتها بالسياسة والمناصب الحكومية، هل كانت الشركة المُنتجة للعمل توافق على تصوير حلقاته، ثم عرضه على الشاشة الصغيرة؟
الأمر نفسه يحدث في تونس والجزائر. في خضم هذا التشنّج الدرامي المغاربي، تبرز أهمية المخرجين السينمائيين، الذين أُتيحت لهم الفرصة للاشتغال على أعمال درامية. فالمخرج السينمائي معتادٌ على إيجاد لغة بصرية ملغزة، لا تقوى السلطة على كشف طرائق تفكيرها أو نقدها. هؤلاء يصطدمون غالباً بمفهوم الرقابة أيضاً، ليس من التلفزيون أو شركة الإنتاج، بل من المجتمع نفسه، الذي لا يقبل نقداً للفقيه مثلاً، ما يخلق نوعاً من التشنّج بين المخرج والمُشاهِد، الذي يحتجّ لدى التلفزيون على رداءة المُحتوى المُقدّم.
لو أنّ المخرج توغّل أكثر في السلطة، وفي علاقتها بالسياسة والمناصب الحكومية، هل كانت الشركة المُنتجة للعمل توافق على تصوير حلقاته، ثم عرضه على الشاشة الصغيرة؟
وإنْ يكن العمل الدرامي جيداً (هذا أمر نادرٌ)، فالرقابة المجتمعية تُجبر التلفزيون على تقطيع مَشاهد كثيرة، تُشوّهه أكثر مما تجعله صالحاً للمُشاهدة. على هذا الأساس، وبسبب الرقابة المجتمعية والسياسية، يلجأ مخرجون جزائريون إلى التاريخ، بغية "تفجير" مكبوتهم الأيديولوجي إزاء قضايا سياسية واجتماعية. وإذا نجح بعض هذه الأعمال الدرامية في مُبتغاه، فإنّه يظلّ ـ من جهة أخرى ـ يعيش زمناً ليس زمنه.

المساهمون