ينهل موسيقيون ومغنون عرب من حقل موسيقي أخذ يتسع إنتاجه تحت مسميات الموسيقى الإلكترونية والأندرغراوند والبوب العربي. وليس كل شيء في هذا الحقل جديداً بالطبع، إلا أن ظهور شباب خارج المألوف المؤسسي للفرق، والطابع الاحتجاجي لتعبيرهم الموسيقي، جعلهم، أو جعل غيرهم من المعجبين به، يطرحون تسمية الموسيقى البديلة، أبعد حتى من تسمية الموسيقى المستقلة.
المغنية المصرية مريم صالح (1985)، والموسيقي اللبناني زيد حمدان (1976)، كان يكفيهما حضور اثنين آخرين معهما إلى "مهرجان مواطني المتوسط" (2022)، في مدينة كاتانيا الصقلّية في إيطاليا. إلا أن واحداً منهم، هو عازف إيقاع، غاب عن المشاركة بعدما تعطلت رحلته، مثلما تعطلت رحلات آخرين، بسبب ثوران خفيف لبركان إتنا.
قبيل بدء حفل "حلاويلا" في قصر الثقافة الأثري وسط المدينة، علقت المغنية مريم صالح قائلة لـ"العربي الجديد"، وهي تبتسم، إن زيد (حمدان) سيدبر نفسه، بمعنى أن غياب عنصر لظرف احتجاجي جيولوجي لن يوقف العرض. وقد كان. استطاعت مريم الغناء حتى منتصف الليل، وسط جمهور حاشد متحمس من الأجانب والعرب، دفعها مرتين لإعادة أغنيتين فوق ما اتُّفق عليه في جدول العرض.
ليست تلفيقاً أو ركوب لحظة المصادفة. كان الاحتجاج البركاني يتصادى مع الأغنيات التي يؤمن بها مشروع "حلاويلا". وليست "حلاويلا" سوى نحت من الشاعر أحمد فؤاد نجم، وغناها رفيقه الشيخ إمام، في ثنائي للأغنية السياسية هو الأشهر عربياً. وفي الأغنية هجاء للثوري الكلمنجي "يتمركِس بعض الأيام، يتمسلِم بعض الأيام، ويصاحب كل الحكّام، وبسطَّعشَر ملّة". وكانت مريم صالح طفلة حين عايشت وجود الشيخ إمام في بيتهم بصحبة والدها صالح سعد، أستاذ المسرح الذي قضى في حريق مسرح بني سويف عام 2005.
تعرفت إلى زيد حمدان عام 2010، وخلال عام لاحق سيبدأ الاثنان جولات كثيرة لتقديم مشروعهما الغنائي الذي بقي محافظاً على سمة المشروع، من دون أن ينتهي بمجرد صدور ألبوم "حلاويلا" عام 2015. وأوضحُ سِمة ظهرت سابقاً، وفي مهرجان "مواطني البحر المتوسط"، هي الاستفادة من ميراث الشيخ إمام الذي ستسيطر أغانيه على أغلب ما يقدّمانه، مع أغنيات أخرى من تأليف مريم صالح، والشاعر ميدو زهير، الذي لمع نجمه في ثورة يناير ورحل عام 2020 عن 47 عاماً.
ولموسيقي اشتهر بأنه أحد آباء "الموسيقى البديلة" أو الجديدة، في بلده لبنان، أن يتعرف إلى ما لم يكن يعرفه سابقاً، وهو الشيخ إمام. وللاثنين معاً، صالح وحمدان، أن يختارا ما يريدان من مسيرة غنائية شهيرة، كانت أساساً أندرغراوند إذا أردنا ألا نصادر المصطلح أو نحتكره.
من خلال أشرطة الكاسيت المتداولة سرّاً في مصر وفي بلدان عربية أخرى، كان الشيخ إمام أنشودة ثورية ممنوعة، "ما عدا تونس"، والعبارة هذه هي مقاطعة توضيحية من المغنية خلال لقاء "العربي الجديد" معها، في رواق المعلم الأثري، بينما يجهز حمدان الغيتارين ولوحة المفاتيح الإلكترونية ومضخمات الصوت والدف الذي لا نراه، لكنه سيظهر في الحفل المسائي، كما ستظهر زغاريد المغنية، وأخرى من الجمهور، ومحاولات زغاريد من الأجانب تحتاج إلى تمرين أكثر.
ومع دخول زيد حمدان عالم الشيخ إمام، المتقشف بأدواته من العود والدف فقط، والثري في صوته وخروجه عن مؤسستي السياسة والفن، كان الخيار انتقاء الجانب الساخر، لا الأغنية السياسية التي نوديت دائماً بالأغنية الملتزمة الجادة. غير أن هذا الخيار يحتاج إلى فحص؛ إذ تبدو المغنية ورفيقها الموسيقي يأخذان أغنية إمام إلى حقل موسيقي مختلف في إضافاته الإلكترونية، وهذا اقتراح فني يستفيد من "الماء السبيل" الذي تركه إمام. وفي الوقت الذي يوجه تحية تقدير إلى فنان استثنائي، فللتجريب الجديد فضل تقديمه على مسارح وعبر الإنترنت لجيل جديد، مرحّب بما يضاف.
إلا أن الجانب الفكاهي لم يكن سوى هجاء سياسي ساخر. الفارق بين الأغنية المريرة والساخرة لم يخرجها أبداً من فعلها السياسي. فما هي أغنية "شرفت يا نيكسون بابا يا بتاع الووتر غيت، عملولك قيمة وسيما سلاطين الفول والزيت"، والتي ستصل إلى "هات وشّك خدلك تفّة شوباش من صاحب البيت" (نيكسون زار مصر عام 1974 بدعوة من السادات)، أو أغنية "فاليري جيسكار ديستان" فكانت مرافقة لزيارة الرئيس الفرنسي عام 1975، ومنها "فاليري جيسكار ديستان والست بتاعه كمان، حيجيب الديب من ديله، ويشبّع كل جعان".
هذا مما تردد صداه من هجائيات وسخريات إمام، وستقطعه أغنيتان، الأولى "امشي على رمشي وادّيني بوسة كمان" التي بدت فيها المغنية متأملة من دون إيقاع، وقدمتها جالسة على كرسي والجمهور في فناء القصر صامت مأخوذ بصوت ملتاع. كما جاءت أغنية "كشف أثري" التي لا يمكن إلا أن تشير إلى أجواء حديثة متوالية 2011، "وإن قلت صوت، تبقى ابن موت، ومنتهتش المسألة، وإن قلت صوت، تبقى ابن موت ومنتهتش المسألة".
تقول المغنية لـ"العربي الجديد"، إن لقاءها مع زيد حمدان أخرج لغة ثالثة، واصفة مسارهما منذ الجولات التي دشانها معاً في 2011، بالتجديد الدائم. ومع ما تملكه مريم صالح من خامة صوتية خاصة، لا يمكن استبعاد قدرتها المسرحية في الأداء. إنها أمام جمهور، تغني حافية القدمين، وتفضل على الالتزام بالبروتوكول الفني أن يبدو غناؤها كما لو أنها التقت الجمهور مصادفة.