مركز المصطبة... فسحة مصرية للموسيقى التراثية الشعبية

28 يناير 2023
يغلب على موسيقى الزار نمط الغناء الصوفي (خالد دسوقي/ فرانس برس)
+ الخط -

خلال السنوات الأخيرة، أي تلك التي تلت ثورة 25 يناير، برزت في القاهرة فضاءات موسيقيّة وغنائيَّة عدة، ليس فقط الرسميّة منها، كدار الأوبرا، بل ظهرت مساحات مستقلّة وبديلة، تحاول تقديم أنواع موسيقية خارجة عن النمط السائد والمهيمن. ولكن ماذا لو أردتم الاستمتاع بنوع مختلف تماماً من الغناء والموسيقى الشعبية، كحلقات الزار (نوع من أنواع الموسيقى الطقسيّة الصوفيّة) مثلاً؟ لا بد أنّكم شاهدتم مقطعاً تمثيلياًّ لهذا النوع من الغناء في أحد الأفلام العربية، كوسيلة يستعان بها، حسب المعتقدات الشعبية، في طرد الأرواح الشريرة أو التخلص من جنّ مُراوغ يتلبّس أحد أبطال الفيلم.

إذا كان لديكم شغف بحضور مثل هذه الحفلات حقاً، فعليكم زيارة "مركز المصطبة" وسط القاهرة، وهو مساحة مُخصصة لعرض هذه النماذج الموسيقية التي يتعامل معها البعض كأنواعٍ فنيّة عفا عليها الزمن.

مكان نادر

الفرق التي تقدّم مثل هذه الأنواع من الموسيقى أصبحت قليلة، حتى أنها قد تُعدُّ اليوم على أصابع اليد الواحدة. ويسعى مركز المصطبة إلى الحفاظ عليها واستمراريتها، باستضافة حفل أسبوعي لأحدها يُقام تحت عنوان "أسياد الزار". تتألف هذه الفرق من أفراد امتهنوا من قبل تنظيم جلسات الزار، لكنهم هنا يقدّمون محتوى يتناسب مع العرض الجماهيري، مع الحفاظ في الوقت نفسه على الروح الطقسيّة التي تتمتع بها هذه الموسيقى.

في هذه المساحة يمكن الاستمتاع بأنواع مختلفة من موسيقى الزار، ومن أشهرها الزار السوداني والزار الحبشي والزار المصري وزار أبو الغيط الذي يغلب عليه الغناء الصوفي.

يحتلُّ مركز المصطبة مبنى قديماً في أحد الشوارع الجانبية وسط القاهرة على بعد خطوات قليلة من قصر عابدين حيث مقر الحكم في الحقبة الملكية. لا تتسع مساحة العروض داخل هذا المركز لأكثر من خمسين أو ستين متفرجاً، غير أن العروض التي تستضيفها قد لا تجدونها بسهولة في مكان آخر في القاهرة. فإلى جانب فرق الزار، هناك فرق أخرى تقدم أنواعاً متعددة من الموسيقى الشعبية المصرية. في هذا المكان، يمكن الاستماع كذلك إلى أصوات مختلفة لآلات موسيقية غير ما تعودتم سماعها، كآلة السمسمية (آلة وترية لها جذور في الثقافة المصرية القديمة) مثلاً، أو آلة الكَوَلة (آلة نفخيّة مصنوعة من القصب) والطنبورة، وهي آلات عزف بعضها معروف، وكثير منها طوته الذاكرة، ضمن ما طوت من الموروث الموسيقي والغنائي الشعبي.

فرق المركز

يضم مركز المصطبة نحو 11 فرقة شعبية، تأسست خمس فرق منها تحت رعاية المركز، منها: فرقة الطنبورة، وفرقة الرانجو، وفرقة الجركن البدوية من شمال سيناء. إلى جانب هذه الفرق، توجد فرق أخرى انضمت إلى المركز بعد إنشائه، مثل فرقة الكفافة من مدينة إدفو جنوب مصر، وفرقة البرامكة، وهم مجموعة من الأفراد يمتد نسبهم إلى البرامكة في عهد الدولة الأموية. "فرقة الرانجو" مكوّنة من مجموعة من المصريين ذوي الأصول السودانية الذين استقروا في مصر منذ عهد محمد علي، ولديهم فنون خاصة بهم مثل العزف على آلة الرانجو مثلاً، وهي آلة تشبة آلة المارينبا، ولكنّها مصنوعة من ثمار القرع.

تأسس مركز المصطبة في بداية التسعينيات من القرن الماضي على يد الفنان، زكريا إبراهيم، وهو أحد المُهتمين بالموسيقى الشعبية المصرية، وذلك بهدف الحفاظ على ما تبقّى من الموروث الغنائي والموسيقي الشعبي في محافظات مصر المختلفة. يقيم المركز حفلاتٍ لفرق شعبية من القاهرة ومدن القنال والصعيد والدلتا وسيناء. أما أبرز ما يلفت الانتباه هنا، فهو الحضور الملحوظ لأجيال مختلفةٍ من صغار السن. إذْ إنَّ أغلب المترددين على هذه الحفلات هم من جيل الشباب الذين وجدوا في هذه الموسيقى شيئاً مختلفاً عما هو رائج اليوم من موسيقى وأغنيات.

عملٌ في الظلّ

بدأ مركز المصطبة نشاطه، كما يقول مؤسِّسه، زكريا إبراهيم، بفرقةٍ واحدة فقط، وهي "فرقة الطنبورة" المكونة من مجموعة فنانين من مدينة بور سعيد. كان هدف ابراهيم في البداية جمع التراث الغنائي الخاص بمسقط رأسه في بور سعيد، والحفاظ على ما تبقى من هذا الموروث الشعبي. وبالفعل، توصّل إلى عدد من ممارسي هذا النوع من الغناء من الشباب والكبار. بدأت فرقته في تقديم عروضها فى مدن القناة والقاهرة، كما نظَّمَت بعض الحفلات خارج مصر بين مدن وعواصم أوروبية.

النجاح الذي حققته هذه الجولات كان دافعاً للتوسع في ذلك الهدف، وبدلاً من اقتصار الأمر على التراث الشعبي في مدن القناة، امتد اهتمام ابراهيم إلى أنواع أخرى من الفنون الشعبية في أنحاء مصر.

جميع الفرق التي تقدم عروضها في "مركز المصطبة" هي فرق شعبية كانت تعمل في الظل بعيداً عن المؤسسة الرسمية، وهي ميزة كبيرة كما يقول مؤسس المركز، فهي حسب رأيه ليست كيانات مصطنعة أو معزولة عن محيطها الشعبي. يرى إبراهيم أن معظم هذه الفرق تعبر عن الوجدان الشعبي وتراثه خير تعبير، لارتباطها بالمزاج الشعبي فى الحارات والشوارع والأقاليم المهمشة والبعيدة عن أنظار المؤسسة الثقافية الرسمية في مصر.

المساهمون