"مخلوقات مسكينة": دعوة إلى التعبير البصري

10 ابريل 2024
إيما ستون ـ بيلا في "مخلوقات مسكينة" هي إنسانة مهجّنة تكتشف مكامن تلذّذها (الملف الصحافي)
+ الخط -
اظهر الملخص
- فيلم "مخلوقات مسكينة"، الحائز على "الأسد الذهبي" بمهرجان فينيسيا 2023، يدعو لابتكار في السينما العربية ويخلق عالمًا فانتازيًا يجمع بين العلم والمعرفة الإنسانية.
- يروي قصة بيلا وغادوين باكستر، مستكشفًا الحب، الهوى، والتجربة العلمية، ويقدم رؤية حول العلاقة بين العلم والمجتمع.
- يطرح الفيلم أسئلة حول الوجود الإنساني والسعادة، مشجعًا السينما العربية على تقديم أعمال تحدي الواقع وتستكشف موضوعات معقدة.

ربما علينا التلويح لـ"السينمات العربية" للالتفات إلى كيفية صنع الأفلام، أو إلى كيفية التفكير بالأفلام. ليس لأنّ "مخلوقات مسكينة" (ترجمة غير مباشرة للعنوان الإنكليزي Poor Things، الذي له ترجمة أخرى: أشياء فقيرة) ـ الفائز بـ"الأسد الذهبي" في الدورة 80 (30 أغسطس/آب ـ 9 سبتمبر/أيلول 2023) لـ"مهرجان فينيسيا السينمائي" ـ فيلمٌ عظيم، تخلو من بعده الأفلام، كما اعتدنا وصف العظمة، بل لأنه (وغيره) دعوة إلى التعبير البصري، كما يراه المبدعون تماماً، فيفسحون المجال للبناء على إنجازاتهم، من دون أنْ يشكّلوا نقطة بداية أو نهاية لأحدٍ، فيبدو الفيلمُ تنبيهاً لـ"سينمات" كهذه: توقّفٌ عن تغطية المسكوت عنه بصرياً، وممارسةُ الصراحة عند المبدع في رؤيته الحقيقة.

عن هذه الصراحة تحديداً، بنى اليوناني يورغوس لانتيموس عالماً مختصاً بتحويل المعلومات إلى معرفة، كتجربة فانتازية غير افتراضية. فالمعلومات العلمية غير نهائية إلى الآن، ويُمكن أنْ تنتقل إلى مرحلة غير نهائية أخرى، عبر التجربة والبرهان العلمي. لكنّ المُكتشف حتماً، والموجود فعلياً، أداءٌ إنساني تروِّضه التجربة، في تحويل العلم إلى معرفة. والمعرفة بطبيعتها بشرية اجتماعية، أيّ أنّها قابلة للترويض.

لكنْ، ماذا لو لم تُروَّض هذه المنتجات العلمية، وظلّت على حقيقتها، أي كما صنعتها التجربة المخبرية: هل تدخل في صراع المفاضلة بين العلم الصريح والتنظيم التكاذبيّ للملذّات البشرية، في ما يُمكن تسميته بـ"الاجتماعية"؟

يطرح الفيلم هذه الإشكالية ـ القضية، من دون إغفال الحب والهوى، كوجود غير مُدرج في التجربة العلمية التي تتلخّص بوضع دماغ جديد في جسد قديم، من عالِمٍ بيولوجي وجرّاح ذي جسد حديث، ودماغ قديم ذي قِيَم علمية مثالية، منسوبة إلى عالم الصدق والمواجهة بالحقائق كما هي. هذا الرجل، غادوين باكستر (ويليام دافو)، يصبح الأب ـ الرحم بالنسبة إلى بيلا (إيما ستون، الفائزة بجوائز بافتا البريطانية وأوسكار الهوليوودية في فئة أفضل ممثلة، وغولدن غلوب الأميركية في فئة أفضل ممثلة في فيلم موسيقي أو كوميدي، 2024)، المرأة التي يركب عقل جنين في جمجمتها، كي تستمر في العيش.

بهذا العقل، عليها أنْ تتعلّم مسارات العيش البشري، في عزلة عن "الاجتماعية". عزلة يوفّرها منزل ـ مختبر غادوين، الأب الصانع المالك، في تلميح ذكي وعابر في مقاربة الاسم مع لفظ "غود"، ودمجه بـ"الأب" و"الآب"، الذي ـ لشدّة إخلاصه للعلم ـ يترك لبيلا حرية المغادرة، لاكتشاف المدى الذي يمكن أنْ تصل إليه هذه الإنسانة المهجّنة التي تكتشف مكامن تلذذّها، صدفة وغريزة، فترحل مع دَنْكن وَدِربِرن (مارك روفالو)، الهائم بها، بحسب قاموس الحب المقتبس من "الاجتماعية"، رغم خطبتها إلى تلميذه ومرشدها، ماكس ماكاندْلِس (رامي يوسف). بهذه المغادرة، تبدأ بيلا رحلتها من العيش إلى الحياة.

دَنْكن، الذي يُدمّره هيامه بها لاحقاً، يتحلّى بالمواصفات "الاجتماعية" للذكر المُروَّض والمروِّض، فيتصارع الشخصان (لا الشخصيتان) على قيم ومبادئ، تبدو مختلفة المنشأ والفعالية، رغم كونها كلّها ناشئة من المصلحة الفردية. فاستخدام الجسد، بالنسبة إلى بيلا التي تنظر إليه نظرة صريحة مباشرة، مُتعاكسٌ تماماً مع نظرة دَنْكن المؤثِّمة لبيلا، نظراً إلى اندفاعها الصادق والمخلص لتلبية احتياجاته، فتقول له، وهي تبصق الطعام من فمّها على مائدة طعام "اجتماعية": لماذا عليّ الاحتفاظ في فمي بمذاق لا يعجبني؟

رغم هذه الاستباحة المنفلتة لبيلا الهجينة، يزداد هيام دَنْكن بها، كأنّه يريد التحوّل إلى أيقونة ذكورية في " الاجتماعية"، التي يعيش وسائلها.

يقودنا "مخلوقات مسكينة" (غولدن غلوب أفضل فيلم موسيقي أو كوميدي، 2024) في عوالم هجينة، كبيلا وغادوين، في رحلة إلى مدن غريبة، رغم معرفتنا البصرية بها (أثينا، الإسكندرية، باريس)، ليبدو كلّ ما في هذا العالم مُهجّناً، فلا يمكن التعرّف على أثينا من أكروبولها، ولا باريس من برجها. يتحوّل المكان إلى صانع أزمنة، فلا زمن واحداً متسلسلاً يُمكن أنْ يلتقطه المُشاهد، فالأزمنة مرتبطة بالشخصيات، والمدن شخصيات أيضاً كما نُلاحِظ، بمعنى أنّها زمان، إضافة إلى كونها مكاناً. ففي أثينا ترومايات مُعلّقة، وباريس ماخورٌ في شكل فندق فاخر، والإسكندرية مقابر ومظلومون. أما السفينة، التي نقلت بيلا ودَنْكن، فمكان وزمان منتقلان أو متحوّلان، بحسب قوّة الترويض الكامنة في الآخر المحيط.

تندمج ثلاثة أزمنة في زمن "مخلوقات مسكينة": زمن بيلا، وزمن غادوين، وزمن "الاجتماعية"، التي يُمكن أنْ تلتصق بها صفة الترويض، لصنع إنسانٍ مُهدّد بالحرمان من السعادة، فتبدو بيلا الوحيدة التي تستطيع ملامسة السعادة وممارستها، رغم تحدّيها البريء والمستمر للحرمان، بإمكانيات جسدية وعقلية، ناقصة بمقياس "الاجتماعية"، وذلك عبر الوصول إلى إجابات عقلية صرفة، لا تأبه بمجريات "الاجتماعية" وأساليبها. لكنْ، هل تنجح بيلا، الموجودة بفعل تهجين "الاجتماعية"، بالعودة بها إلى منابع الأنسنة الصرفة، كما يقتضيها المنطق العلمي، قبل أنْ يتحوّل إلى معرفة؟

يؤجّل "مخلوقات مسكينة" الإجابة عن السؤال الآنف، بسبب موت غادوين، خضوعاً لمنطق الحياة نفسها، التي تمثّل استمرارية الأسئلة، واستمرارية محاولات الإجابة عنها. كلّ ذلك متقطّع ومتواصل في آن معاً، بسبب الموت ومحدودية زمن العمر، حيث لا إجابة إلا التطوّر إلى "أحسن" أو "أسوأ". تماماً كالعلم الصرف، الذي يُمكنه صُنع تكنولوجيات السعادة مع صُنعه تكنولوجيات القتل والتعذيب. تقبع بيلا مستلقية، ومعها ماكس، إلى جوار غادوين المحتضر ـ الميت، بانتظار العلم، لعلّه يُهيّئ لهما تجربة معرفية جديدة.

الفانتازيا واقع، كما في تعريفات فنية. "مخلوقات مسكينة" فيلمٌ واقعيّ يحكي عن تناقض العيش الاجتماعي، مع التصميم الأوّلي لوجودنا الفردي، حيث الانحياز إلى الحقيقة العلمية مُهدّد دائماً بالنفي من "الاجتماعية". فماذا لو اختلفت الأزمنة في خضمّ واقعٍ موجود وكلّي القدرة على الترويض؟

مرة أخرى، نعود إلى السينمات العربية، التي نجزم أنّها لا تستطيع صنع فيلم كهذا. لكنْ، هناك تساؤل حقيقي: هل تستطيع هذه السينمات أن تعرضه، أو أنْ تساعد على السماح بعرضه تجارياً، وعلى شاشات التلفزة المحلية؟ السؤال برسم المُنادين بصناعة سنيمائية عالمية وراقية.

المساهمون