فيما نشهد بداية الشهر السادس من العدوان الإسرائيلي المتواصل على قطاع غزّة، ووسط إبادة جماعية على مرأى من العالم أجمع، بقي أمل حيّ في زوايا صغيرة، وسط القطاع المحاصر، تنبض بالموسيقى. تزخر مواقع التواصل الاجتماعي بمقاطع فيديو لأطفال وشباب من هواة الغناء وهم يشْدُون بأصواتهم العذبة أغنيات عن التعلّق بالأرض والأسى على ما فُقد.
وفي الآن ذاته، هناك في غزّة من يساهم بما لديه من معرفة وخبرة في مجال علوم الموسيقى ويشاركها مع محيطه الصغير. محمد الهباش عازف عود محترف، كان قبل العدوان يعمل في معهد إدوارد سعيد الوطني للموسيقى مشرفاً أكاديمياً وأستاذاً لمادة العزف على آلة العود، واليوم يدير نشاطات موسيقية لعدد من الأطفال النازحين في القطاع. بادر لتنظيم النشاط هذا القيمون على معهد إدوارد سعيد بالتعاون مع المشرفين على مراكز الإيواء التابعة لوكالة أونروا في مخيّم النصيرات. مع العلم أن المعهد المذكور قد تدمّر جزء كبير منه جرّاء قصف جيش الاحتلال الإسرائيلي، وهو بحسب محمد الهباش واحد من معهدين كانا معتمدين أكاديمياً على مستوى غزّة بطواقم مدرّسين مختصّين في علم الموسيقى، الثاني منهما هو مؤسسة السنونو للثقافة والفنون التي تدمّرت بالكامل أيضا.
اليوم يلتقي محمد الهباش والأطفال بمعدّل ثلاثة لقاءات أسبوعياً، تتراوح مدّة كل منها ما بين ساعة وتسعين دقيقة، ويخدم النشاط نحو مئة أو مئة وخمسين طفلاً، بحسب العدد الموجود في مركز الإيواء "مدرسة ذكور النصيرات الإعدادية". يتضمّن النشاط تدريبات على أداء أغنيات شعبية محبّبة لدى الأطفال، إضافة إلى تمارين ألعاب موسيقية إيقاعية بسيطة تناسب جميع المستويات، كي يتاح المجال لأكبر عدد من الأطفال للاستفادة، بصرف النظر عن أعمارهم أو موهبتهم، أو ما إذا كانت لديهم معرفة موسيقية مسبقة. "هدف النشاط هو التفريغ النفسي للأطفال، ومنحهم وأهاليهم فسحة للخروج من أهوال الحرب"، يقول محمد الهباش؛ "فجلسات التدريب الموسيقي والغناء تنسينا الوضع الكارثي الذي نحن فيه، لا سيّما أمام ما نلقاه من تفاعل إيجابي من الأطفال؛ أصوات ضحكاتهم وحتى مشاغباتهم".
يساعد محمد الهباش في التدريب كل من حلا السمّاك على آلات الإيقاع، وهي من خرّيجات معهد إدوارد سعيد، وصالح جبر وهو طالب آلة العود في المعهد نفسه. النشاط يشمل جلسات جماعية يشارك فيها جميع الأطفال، إضافة إلى جلسات فرديّة مع الأطفال من أصحاب المواهب الموسيقية.
ترافق الهباش للتدريبات ابنتاه العازفتان الصغيرتان ريما (12 عاما) ومريم (7 سنوات) وكلتاهما على إلمام بالموسيقى جيد. فقبل العدوان، كانت مريم تتابع دروسا في العزف على آلة البيانو، أما ريما فتعزف آلة القانون وهي حاصلة عام 2021 على المركز الأول في مسابقة فلسطين الوطنية للموسيقى عن فئة الموسيقى العربية التي كان ينظمها معهد إدوارد سعيد الوطني، كما فازت بجائزة عن فئة العزف والأغنية الوطنية في مسابقة "موهبتك من بيتك" التي نظّمتها الهيئة العامة للشباب والثقافة ومنتدى الأمة للتنمية عام جائحة كوفيد-19.
قبل السابع من أكتوبر، كانت ريما ومريم تشاركان والدهما العزف والغناء في فيديوهات تُنشر على مواقع التواصل الاجتماعي. أمّا اليوم، فتشاركانه أنشطة الأطفال غناء وتساعدان أحياناً في التمارين، لا سيما ريما كونها الأكبر سنّاً والأكثر خبرة: "تحفظ ريما العديد من الأغنيات الشعبية، كما يساعد أن صوتها قريب من أصوات أقرانها الموجودين في الجلسات"، يقول والدها. أمّا برنامج الأغنيات المطروح؛ فشمل "شدّوا الهمّة" لمارسيل خليفة، و"يا طير الطاير" لمحمد عسّاف، و"بكتب اسمك يا بلادي" لإيلي شويري، و"خضرا يا بلادي خضرا" لوديع الصافي، كما أضاف أخيراً أغنيات لمناسبة شهر رمضان، مثل "رمضان جانا" لمحمد عبدالمطلب و"مرحب يا هلال" لحمود الخضر، و"شو ما بيخطر على بال الأطفال"، على حد تعبير الهباش الذي يضيف: "يفرح الأطفال بكل ما يمكن أن يرفّه عنهم وينسيهم هموم الحرب، حتى إن ذويهم سعيدون جدّا بالنشاط وطلبوا أن يكون يومياً".