في فيلم "مجتمع الثلج" Society of the Snow، يسرد الإسباني خوان أنطونيو غارسيا بايونا (1975)، استناداً إلى وقائع حقيقية، قصة رائعة ومُدهشة عن التمسك بالحياة، وتحدّي الصعاب، رغم فقدان الأمل، واستحالة النجاة، وذلك في رحلة روحية، بمستويات عدّة، تُركّز أساساً على إرادة الإنسان في التغلّب على أسوأ الظروف وأكثرها استحالة، ثم تُطرح أسئلة كثيرة، أهمها: هل تستحق الحياة فعلاً مواجهة المستحيل والتمسّك بالأمل لأجلها، حتى آخر لحظة؟
"مجتمع الثلج" (نتفليكس)، المعروض في ختام الدورة الـ80 (30 أغسطس/ آب ـ 9 سبتمبر/ أيلول 2023) لمهرجان فينيسيا السينمائي، وكان خير ختام، أثار تساؤلات حول عدم اختياره في المسابقة الرئيسية، أو كفيلم افتتاح. رغم ذلك، يصعب جداً إدراجه، نظراً إلى جمالياته الفنية اللافتة في أكثر من مستوى، في الإنتاجات المعهودة للمنصّة. هذا يُحسَب لجهة الإنتاج طبعاً، وإنْ يصعب تخيّل كيفية عرض فيلمٍ كهذا، على قدر كبير من الجماليات المُتطلّبة لمُشاهدة سينمائية على شاشة كبيرة، في بثّ عاديّ على شاشات الأجهزة الصغيرة.
إنّه ليس أول فيلم يُنتَج عن واقعة تحطم طائرة فريق شباب الأوروغواي للرّغْبي، إذ سبق تناولها أكثر من مرة في أفلامٍ روائية طويلة ووثائقية. مع هذا، يُعتبر "مجتمع الثلج" أدقّ وأكثر مصداقية واحترافية وتفصيلاً وتدقيقاً وإقناعاً وإثارة، رغم طول مدّته (144 دقيقة).
فيه، يستند بايونا أساساً إلى كتاب بالعنوان نفسه (2009) للصحافي بابلو فيرسي (الأورغواي). تبدأ أحداثه بتعريفٍ سريع بشباب فريق الرغبي في "نادي المسيحيين القدامى"، وعلاقة الصداقة المتينة التي تجمع بينهم، قبل رحلتهم المشؤومة في أكتوبر/تشرين الأول 1972، على متن طائرة الخطوط الجوية الأوروغويانية رقم 571 التي أقعلت من مُونتيفيديو (الأوروغواي)، مُتوجّهة إلى سانتياغو (تشيلي)، للعب مباراة هناك. على متنها أعضاء الفريق، وأفراد من عائلات اللاعبين وأصدقائهم (45 شخصاً مع طاقم الطائرة، تتراوح أعمارهم بين 18 و50 عاماً).
لم تصل الطائرة إلى وجهتها، فبعد إقلاعها بوقتٍ قصير، اصطدمت بـ"وادي الدموع" (جبال الأنديز، الأرجنتين)، أبعد المناطق وأكثرها وعورة، ويصعب الوصول إليها. مات بعضهم فور انشطار الطائرة، بعد اصطدام ذيلها بقمّة جبل، وبمعجزة، نجا 29 فرداً.
بعد نصف ساعة تقريباً، تبدأ الأحداث في التعقيد والإثارة، مع متابعة ما حدث لهم في ظروفٍ مناخية متجمّدة ومُثلجة، وعواصف لا يُمكن تصوّرها. بعد توقّف البحث عنهم، واستبعاد أي أمل في نجاتهم، أُعلِن عن وفاتهم. لكنْ، بعد 75 يوماً، عُثِر على بعضهم، أواخر ديسمبر/ كانون الأول 1972.
إنّها معجزة حقيقية، بعد اتّخاذ ثلاثة أفراد منهم قراراً بتحدّي المستحيل، وارتقاء قمم الجبال الثلجية، والوصول إلى تشيلي سيراً على الأقدام، للحصول على المساعدة. رحلة "مستحيلة"، إذ لم يستطع أحدهم إكمالها، فعاد بعضهم بعد بلوغ منتصفها، ونجح اثنان، بعد 10 أيام، في إنجازها، ليُنقذا حياة 16 فرداً بقوا إلى جوار الحطام.
لم يكتفِ خوان أنطونيو غارسيا بايونا بسرد درامي عادي أو بسيط للأحداث، وكيفية بقاء هؤلاء أحياء، إذ يغوص بعمق واحترافية في استعراضه الشخصيات المُوجودة معاً في نصف الطائرة المشطورة؛ وكيف غمرهم يأس بالغ، بعد عدم رؤية طائرات الاستطلاع الباحثة عنهم، ثم الإعلان عبر الراديو عن وفاتهم جميعاً.
يتعمّق السرد، بالمستويات كلّها، بعد مرور أكثر من أسبوع من دون طعام، ومواجهتهم هلاكاً وشيكاً بعد تناولهم كلّ شيء، بما فيه لفافات التبغ. أخيراً، قرارهم المُستحيل، ولهم قدر كبير من الإيمان العميق والتديّن البالغ، بأكل جثث من ماتوا من أصدقائهم؛ في مقابل رفض البعض هذا في البداية، دينياً وإنسانياً، كونهم أصدقاء، بل بشراً، ثم كيفية انتهاء الأمر بهم إلى إعلان بعضهم، بإقرارٍ مكتوب، السماح للأحياء بأكل جثثه بعد وفاته.
هذا من المشاهد الأكثر درامية وتأثيراً، في فهم ماهية الموت والحياة، والحدّ البسيط الفارق بينهما. يُشير هذا الجانب (أكل لحوم البشر)، بالغ الأهمية والحيوية، إلى قصّة رعب مُروّعة، أحسن بايونا تصويرها واستغلالها درامياً من دون افتعال، مُبيّناً بفنيّة وعمق كيف أنّ الموتى يمنحون الحياة لغيرهم، فينقذونهم من موت وشيك.
في الفيلم، تجليّات أخرى كهذه، تُبرز مواقف الشخصيات وتفاوتها، النفسي والعصبي والجسدي، إزاء ما مرت به، لا سيما تجاه الأصدقاء والأشقاء ممن بدأوا يُفارقون الحياة أمام أعينهم. خاصة، بعد هبوب عاصفة مُباغتة، طمرت نصف الطائرة لـ4 أيام كابوسية، أودت بحياة البعض، واضطرّت الآخرين، بعد تردّد، إلى أكل أجزاء من الموتى، إلى أنْ تكاتفوا معاً للخروج أحياء من قبرهم الثلجي، ورؤية ضوء الشمس الباهت.
في "مجتمع الثلج"، أبدع بايونا وطاقمه في تصوير مشاهد ارتطام الطائرة وتحطّمها، وانبعاج كراسيها، وفي استخدام الصوت ببراعة، حتى استقرار الطائرة بين الثلوج. كما يُلاحظ توظيفه اللافت جداً للمونتاج في تحطّم الطائرة، والمشاهد في نصفها المشطور. كما أنّ حركة الكاميرا وزوايا اللقطات مُدهشٌ جداً في مشاهد كثيرة، بتصوير احترافي لمدير التصوير الموهوب بيدرو ليكو. وهذا يُلاحظ في نصف الطائرة المشطورة، حيث اللقطات المُقرّبة على الشخصيات، وتصوير حالات الانهيار النفسي والإعياء والمرض والموت؛ أو خارجه، حيث البياض الثلجي المُخيف، وهبوب العواصف الغادرة؛ أو المناظر العلوية للجبال المهيبة، وقممها الشاهقة المكسوّة بطبقات الجليد اللانهائية، ونصف الطائرة، وبقايا الحطام، وغيرها، وسط الوادي الجبلي.
إضافة إلى هذا، يُحسَب له اختياره وإدارته البارعان جداً لممثلين شباب غير محترفين، من الأوروغواي وتشيلي والأرجنتين، والأداء الباهر والمقنع والمميّز لغالبيتهم.